ديوان‮ ‬‮ ‬‮رفــ الحصانة ــع ‬

2007-08-29

رسائل من الأرض-٣



" من لا يقرأ كتبا جيدة ليس له ميزة على من لا يستطيع قراءتها."


هذه ترجمة الرسالة الثالثة من سلسلة (رسائل من الأرض) للكاتب الأمريكي (مارك توين). يمكنكم الإطلاع على الأجزاء السابقة هنا وهنا. وللإطلاع على النص الأصلي بالإنجليزية، نحيلكم إلى الموقع التالي.


Letters From The Earth
by Mark Twain
© Harper & Row, 1962, 1974

_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/


الرسالة 3

لقد لاحظتم ان الكائن البشري مثير للفضول. في الماضي كانت لديه المئات والمئات من الأديان (أبادها وألقى بها بعيدا)؛ اليوم لديه المئات والمئات من الأديان، ويطلق ما لا يقل عن ثلاثة أديان جديدة كل سنة. أستطيع ان أضخم هذا العدد وأظل في داخل حدود الحقائق.

واحد من أهم أديانه يسمى المسيحية. سيثير إهتمامكم وصفه المقتضب. يتبين بالتفصيل في كتاب يحوي مليونى كلمة، يسمى العهد القديم والعهد الجديد. كما أن له إسم آخر -- كلام الله. فالمسيحي يعتقد أن كل كلمة فيه أملاها الله--ذلك الذي أتحدث عنه.

إنه مليء بالإثارة. فيه شعر نبيل؛ وبعض الخرافات الذكية؛ وبعض التاريخ الملطخ بالدم؛ وبعض الأخلاق الحميدة؛ وثروة من الفاحشة؛ وما يفوق الألف أكذوبة.

هذا المصحف بني أساسا من شظايا كتب أقدم، عاشت يومها وتداعت إلى الخراب. وهكذا فهو يفتقد الأصالة بشكل ملفت، بالضرورة. أهم وأعجب ثلاثة أو أربعة من أحداثه وقعت جميعها في كتب سابقة؛ وأفضل المباديء وقواعد السلوك التي فيه جاءت ايضا من هذه الكتب؛ ولا يوجد به سوى شيئين جديدين: جهنم واحدة، وتلك الجنة المفردة التي أخبرتكم عنها.

ماذا سنفعل؟ إذا إعتقدنا، مع هؤلاء الناس، أن إلهم إخترع هذه الاشياء القاسية، سنفتري عليه؛ وإذا إعتقدنا أن هؤلاء الناس إخترعوها بأنفسهم، سنفتري عليهم. إنها معضلة غير سارة في كلتا الحالتين، لأنه لم يلحقنا أي ضرر من كلا الجانبين.

من أجل السكينة، فلننحاز إلى جهة. فلنوحد قوانا مع الناس ونضع كل هذا العبء الفظ عليه-- الجنة وجهنم، والمصحف والجميع. قد لا يبد ذلك صائبا، ولا عادلا؛ ولكن عندما تضعون تلك الجنة في الإعتبار، وكيف أنها مشحونة بكل ما يثير الإشمئزاز لدى الإنسان، كيف نصدق أن إنسانا اخترعها؟ وعندما آتي على خبر جهنم، ستكون الوصمة أكبر وأكبر، وعلى الأرجح ستقولون كلا، الإنسان لا يمكن أن يأتي بذلك المكان، سواء لنفسه أو لأحد كان؛ أنه ببساطة لا يستطيع ذلك.

ذلك المصحف البريء يتحدث عن الخلق. خلق ماذا--الكون؟ نعم الكون. في ستة أيام!

الله فعل ذلك. ولم يطلق عليه إسم الكون -- ذلك الإسم حديث. كل إهتمامه إنصب على هذا العالم. شيده في خمسة أيام -- وبعد ذلك؟ استغرق يوما واحدا فقط لصنع عشرين مليون شمس وثمانين مليون كوكب!

وماذا كان الغرض منها-- وفقا لهذه الفكرة؟ لتقدم الضوء لهذا العويلم اللعبة. هذا كان كل غرضه؛ لم يكن له غيره. واحدة من العشرين مليون شمس (أصغر واحدة) لتضيئه في النهار، والباقي لمساعدة واحدة من أقمار الكون التي لا تحصى لتعدل ظلام لياليه.

يتضح تماما إعتقاده بأن سماءه البكر بذرت بالماس وتلك الجموع من النجوم المتلألئة لحظة غوص شمس أول أيامه تحت الأفق؛ بينما في الواقع، ولا نجم واحد غمز في ذلك القبو الأسود حتى ثلاث سنوات ونصف بعد أن كانت الصناعات الهائلة قد إكتملت في ذلك الأسبوع الذي لا ينسى.[*] ثم بدا نجم واحد، وحيد على إنفراد، وبدأ يرمش. بعد ذلك بثلاث سنوات ظهر نجم آخر. ورمش الإثنان معا لأكثر من أربع سنوات قبل ظهور ثالثهم. في نهاية المائة سنة الأولى لم يكن هناك خمسة وعشرون نجما يتلألأ في الخلاءات الشاسعة لتلك السموات الكئيبة. في نهاية الألف سنة لم يكن هناك من النجوم المرئية ما يكفي لتقديم عرض. وفي نهاية مليون سنة مجرد نصف طائفة الوقت الحاضر كانت قد أرسلت أضواءها على مدى الحدود التيليسكوبية، واستغرقت البقية مليون سنة أخرى لتحذو حذوها، كما تقول العبارة الركيكة. وبما أنه لا يوجد في ذلك الوقت أي تيليسكوب، لم يُشهد حلولها.

لمدة ثلاث مائة سنة، الآن، عرف عالم الفلك المسيحي أن إلهه لم يخلق النجوم في تلك الأيام الستة الهائلة؛ ولكن الفلكي المسيحي لا يتوسع بتلك الجزئية. ولا الكاهن.

في كتابه، الله بليغ في شكره لأعماله العظيمة، ويدعوها بأكبر الأسماء التي يمكن أن يجدها--مما يشير إلى أنه يملك إعجابا شديدا وعادلا بالضخامة؛ ولكنه خلق هذه الملايين من الشموس المذهلة لتضيء هذا الجرم الضئيل، بدلا من تعيين شمس هذا الجرم الصغيرة لترقص حاضرة عليهم. يذكر السماك الرامح {نجم يسمى أيضا حارس السماء}** في كتابه--أنتم تذكرون السماك الرامح؛ ذهبنا إلى هناك مرة. هو واحد من مصابيح ليل الأرض! -- تلك الكرة العملاقة، حجمها أكبر من شمس الأرض بخمسين ألف مرة، وتقارن بها كمقارنة البطيخة بالكاثدرائية.

ومع ذلك، لا تزال مدرسة يوم الأحد تعلم الطفل أن السماك الرامح انشيء ليساعد على إضاءة هذه الأرض، وينمو الطفل وطالما يظل مصدقا بعد أن يكتشف أن الإحتمالات تتعارض مع كونه كذلك.

حسب الكتاب وخدمه، الكون عمره ستة آلاف سنة فقط. لم يحدث إلا في المائة سنة الماضية أن عقولا مجتهدة مستفسرة وجدت أن عمره أقرب إلى مائة مليون سنة.

خلال الستة أيام، الله خلق الإنسان وسائر الحيوانات.

خلق رجلا وامرأة وأسكنهما حديقة سارة، مع سائر المخلوقات. عاشوا جميعا في وئام وقناعة وشباب مزدهر لبعض الوقت؛ ثم جائت المشاكل. كان الله قد حذر الرجل والمرأة أن لا يأكلا من ثمرة شجرة معينة. وأضاف ملاحظة من أغرب ما يكون: قال أنهما إذا أكلا منها ستكون موتهما مؤكدة. ملاحظة غريبة والسبب أنه طالما لم يسبق لهم أن يروا عينة من الموت، فلا يمكن أن يعرفوا ما كان يقصده. لا هو ولا أي إله آخر كان قادرا أن يجعل هؤلاء الاطفال الجهلة يفهمون المعنى المقصود، دون تقديم عينة. الكلمة المجردة لايمكن أن تعني لهم شيئا أكثر مما تعنيه لرضيع عمره أيام.

وحالا كان ثعبان يبحث عنهم سرا، وجاءهم يمشي مستقيما، مثلما كانت عادة الثعابين في تلك الأيام. قال الثعبان أن الثمرة المحرمة يمكن أن تملأ عقولهم الشاغرة بالمعرفة. فأكلوها، وكان ذلك أمرا طبيعيا، فالإنسان خلق متلهفا للمعرفة؛ بينما الكاهن، مثل الله، الذي يمثله ويقلده، جعل من إختصاصه منذ البدء أن يحول بينه وبين معرفة أي شيء مفيد.

آدم وحواء أكلا الثمرة المحرمة، وعلى الفور تدفق في رؤوسهم القاتمة ضوء عظيم. إنهم إكتسبوا المعرفة. أي معرفة -- المعرفة المفيدة؟ كلا -- فقط معرفة أن هناك شيء ما كالخير، وشيء ما كالشر، وكيف يعملوا الشر. لم يستطيعوا أن يفعلوا ذلك من قبل. لذا كل أعمالهم حتى هذا الوقت كانت دون وصمة، دون لوم، دون مخالفة.

أما الآن يمكن أن يعملوا الشر-- ويعانوا من جراء ذلك؛ الآن حصلوا على ما تسميه الكنيسة مِلك لا يقدر بثمن، الحاسة الأخلاقية؛ تلك الحاسة التي تميز الإنسان عن الحيوان، وتضعه في أعلى مرتبة. بدلا من أدنى الوحوش -- أينما يفترض المرء أن يكون مكانه المناسب، لأنه دائما قذر الفكر ومذنب، والحيوان دائما نظيف الفكر وبريء. وذلك الترتيب شبيه بجعل ساعة لابد لها أن تخطأ أثمن من ساعة لايمكن أن تخطأ.

الكنيسة لا تزال تثمن العقل الأخلاقي كأنبل ما يملكه الإنسان، رغم أن الكنيسة تعلم أن الله رأى أنه سيئ بتميز وفعل كل ما باستطاعته وبطريقته المرتبكة ليمنع (أطفال الحديقة) السعداء من الحصول عليه.

جيد جدا، آدم وحواء الآن يعرفوا ما هو الشر، وكيف يعملوه. انهم يعرفون كيفية القيام بمختلف انواع السيئات، وبينها واحدة رئيسية-- الواحدة الرئيسية التي شغل الله بها فكره. وهي فن ولغز الجماع. بالنسبة لهم كان اكتشافا رائعا، وتوقفوا عن التسكع، وصوبوا نحوه كامل إنتباهم، أولئك الشباب المبتهجون المساكين!

في خضم إحدى هذه الإحتفالات سمعوا الله يمشي بين الشجيرات، كما كانت عادته بعد الظهر، وصعقهم الخوف. لماذا؟ لأنهم كانوا عراة. لم يعرفوا ذلك من قبل. لم يتضايقوا من قبل، ولا الله.

في تلك اللحظة التي لا تنسى ولد التكبر؛ ومن الناس من عظم شأنه منذ ذلك الحين، رغم أن تفسيره من المؤكد أن يحيرهم.

آدم وحواء دخلوا إلى العالم عراة وبلا حياء-- عراة بفكر نقي؛ ولا أحد من سلالتهم دخله يوما بخلاف ذلك. الجميع دخلوه عراة بلا حياء، نظيفة عقولهم. دخلوه بتواضع. كان عليهم أن يكتسبوا التكبر والعقل المتسخ؛ ولم تكن هناك طريقة اخرى للحصول عليه. أول واجبات الأم المسيحية أن توسخ عقل طفلها، و هي لا تهمل هذا الواجب. ويكبر فتاها ليكون مبشرا، ويذهب إلى البدائيين الأبرياء والمتحضرين اليابانيين، ويوسخ عقولهم. عندئذ يعتمدوا التكبر، يخفوا أجسامهم، ويتوقفوا عن الاستحمام معا في العراء.

العرف المسمى بالخطأ إحتشام ليس له معيار واحد، ولا يمكن أن يكون له، لأنه معارض للطبيعة والعقل، وبالتالي فهو إصطناع يخضع لهوى أي شخص، الهوى المريض لأي شخص. وهكذا، في الهند السيدة الراقية تغطي وجهها وصدرها وتترك ساقيها عارية من الأوراك فما أسفل، في حين تغطي الأوروبية الراقية ساقيها وتكشف عن وجهها وثدييها. في الأراضي التي يقطنها البدائيون الابرياء، الاوروبية الراقية سرعان ما تتعود على العراء المحلي الصارخ البالغ أشده، وتتوقف مهانته عندها. كاونت وكونتيسا فرنسيان، على ثقافة عالية، وبدون علاقة تربطهما، تحطمت بهما سفينة وألقت بهما على جزيرة غير مأهولة في القرن الثامن عشر، أصبحوا عراة على عجل. وشعروا بالخجل أيضا--لمدة أسبوع. بعد ذلك، لم يضايقهم عرائهم، وسرعان ما توقفوا عن التفكير فيه.

انتم لم تروا أبدا أي شخص في ملابس. آه، حسنا، لم تخسروا شيئا.

لنمضي مع فضوليات المصحف. ستظنون طبعا أن التهديد بمعاقبة آدم وحواء على العصيان لم ينفذ، لأنهم لم يخلقوا أنفسهم، ولا طبيعتهم ولا تهورهم ولا نقاط ضعفهم، وبالتالي لم يصح إخضاعهم لأوامر أحد، وهم ليس مدينين لأحد بالمسؤولية عن أعمالهم. سيفاجئكم أن تعلموا أن التهديد تم تنفيذه. آدم وحواء نالوا عقابهم، وتلك الجريمة تجد لها مدافعين إلى يومنا هذا. الحكم بالإعدام تم تنفيذه.

وكما ترون، إن المسؤول الوحيد عن مخالفة الزوجين نجا؛ ولم ينج فحسب بل أصبح جلاد الأبرياء.

في بلدكم وبلدي يجب أن يكون لنا شرف السخر من هذا النوع من الأخلاق، ولكن ذلك سيكون قاسيا هنا. كثير من هؤلاء الناس يملكون قدرة العقل، ولكن أحدا لا يستخدمها في الأمور الدينية.

أفضل العقول ستقول لكم أنه عندما ينجب رجل طفلا فهو ملزم له خلقيا برقيق العناية، وبحمايته من الأذى، وبوقايته من الأمراض، وبالملبس والمأكل، وبتحمل شذوذه، وبألا يضع عليه يدا إلا بلطف ولصالحه، وألا يلحق به قسوة مستهترة في أي حال من الأحوال. معاملة الله لأبنائه الأرضيين، في كل يوم وكل ليلة، هي بالضبط عكس ذلك كله، ولكن تلك العقول الفاضلة تبرر هذه الجرائم بحرارة، تتغاضى عنها وتعذرها، وترفض بسخط أن تنظر إليها كجرائم على الإطلاق، عندما يرتكبها هو. بلدكم وبلدي مكان مثير، ولكن ليس هناك ما يساوي حتى نصف مثارة العقل البشري.

جيد جدا، نفى الله آدم وحواء من الجنة، وفي نهاية المطاف إغتالهم. كل ذلك بسبب عصيان أمر ليس له حق إصداره. لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، كما سترون. عنده شريعة لنفسه، وأخرى مختلفة تماما لأولاده. وهو يأمر أولاده بالتعامل بإنصاف -- برفق -- مع المخالفين، ويغفر لهم سبع وسبعين مرة؛ في حين أنه لا يتعامل بعدالة ولا برفق مع أحد، ولم يغفر لأول زوج من الأحداث الجاهلين حتى أول مخالفة صغيرة، ولم يقل: "إذهبوا فأنتم طلقاء هذه المرة، سأعطيكم فرصة أخرى."

على العكس! إختار أن يعاقب أبنائهم، عبر جميع العصور حتى نهاية الزمن، على مخالفة عابثة إرتكبها آخرون قبل أن يولدوا. ولا زال يعاقبهم. بأساليب معتدلة؟ كلا، بأساليب بشعة.

أنتم لن تفترضوا أن هذا النوع من الكائنات يتلقى الكثير من الإشادة. أزيحوا الوهم عنكم: العالم يدعوه بأسماء العادل، الصالح، الخير، الرحيم، الغفور، الصادق، المحب، ومصدر كل الأخلاق. هذه التهكمات تقال يوميا، في كل أنحاء العالم. ولكن ليس كتهكمات إرادية. لا، إنها تطلق بجدية: تقال دون إبتسامة.

----------------------------------------
* ملاحظة: ضوء أقرب نجم (61 سيغني) يستغرق ثلاث سنوات ونصف السنة ليصل إلى الأرض، مسرعا بمعدل 186 ألف ميل في الثانية. السماك الرامح كان مشرقا 200 سنة قبل أن تصبح رؤيته ممكنة من الأرض. النجوم الأبعد أصبحت واضحة للعيان تدريجيا بعد آلاف وآلاف السنين. -- المحرر [م. ت.]

** ملاحظات المترجم تضاف {بين معكوفين} وباللون الأحمر.

التسميات: ,

2007-08-20

رسائل من الأرض-٢

"إذهب إلى الجنة من أجل الطقس، وإلى جهنم من أجل الصّحبة."


هذه ترجمة الرسالة الثانية من (رسائل من الأرض) للكاتب الأمريكي (مارك توين). يمكنكم الإطلاع على ترجمة الأجزاء السابقة هنا. وللإطلاع على النص الأصلي بالإنجليزية، نحيلكم إلى الموقع التالي.


Letters From The Earth
by Mark Twain
© Harper & Row, 1962, 1974

/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_


الرسالة 2

"لم أقل لكم شيئا ليس صحيحا عن الإنسان". ولابد من عفوكم إذا أنا كررت هذه الملاحظة بين الحين والآخر في هذه الرسائل؛ أريدكم أن تأخذوا ما أقوله لكم بجدية، وأنا أشعر أنني لو كنت في مكانكم وأنتم في مكاني، لكنت في حاجة لهذا التذكير من وقت إلى آخر، حفاظا على تصديقي من الوهن.

فما من شيء عن الإنسان إلا يكون غريبا على الخالدين. لا ينظر لأي شيء بمثل نظرتنا، شعوره بالتناسب يختلف تماما عن شعورنا، وإحساسه بالقيم يتباين مع إحساسنا إلى درجة أنه، وبكل ما نملك من قدرات عقلية كبيرة، لا يحتمل حتى لأكثرنا موهبة أن يكون أبدا قادرا على فهمه.

فعلى سبيل المثال، خذ هذه العينه: لقد تخيل جنة، وترك خارجها تماما ذروة مسراته جميعا، النشوة التي تتواجد أولا وقبل كل شيء في قلب كل فرد من جنسه--وفي قلوبنا-- الجماع!

وكأن شخصا تائها في صحراء لافحة يقول له منقذه أن يختار من الأشياء كل ما يتمناه إلا واحدا، فيترك الماء!

جنته شبيهة به: غريبة، مثيرة للإهتمام، مدهشة، قبيحة. أقول لكم، ليس لها سمة واحدة من السمات التي يقدسها في الواقع. فهي تتألف -- حرفيا وكليا -- من ملاه لا يعيرها أي إهتمام، هنا في الارض، ولكنه متأكد تماما أنه سيحبها في الجنة. أليس هذا غريبا؟ أليس مثيرا؟ لا تظنون أني مبالغا، لأنني لست كذلك. سأوافيكم بالتفاصيل.

معظم الناس لا يغنون، معظم الناس لا يستطيعوا أن يغنوا، ومعظم الناس لا يمكثوا عندما يغني الآخرون إذا إستمر الغناء أكثر من ساعتين. لاحظوا ذلك.

حوالي إثنين في المئة من بني الإنسان يستطيعوا أن يعزفوا على آلة موسيقية، ودون الأربعة في المئة لديهم أي رغبة في التعلم. سجلوا ذلك.

كثير من الناس يصلون، وليس كثير منهم من يرغب في ذلك. قليل من يطيل الصلاة، والآخرون يختصروا الطريق.

المراودون للكنيسة أكثر ممن يرغبون الذهاب.

عند كل تسعة واربعين من خمسين إنسان يوم (السبت) (يوم التعبد) ملل كئيب، كئيب.

من جمع المصلين في الكنيسة يوم الأحد، الثلثان يصابوا بالملل في منتصف الصلاة، والباقي قبل نهايتها.

أسعد لحظة بالنسبة لهم هي عندما يرفع الإمام يديه للدعاء. عندها يمكنك سماع حفيف الإستراحة الخافت يجتاح البيت، وتدرك شاكرا أنه بليغ.

جميع الأمم تحتقر سائر الأمم.

جميع الأمم تكره سائر الأمم.

جميع أمم البيض يحتقرون جميع أمم الملونين، بأي طيف كان، ويقهرونهم ما استطاعوا.

الإنسان الأبيض لا يرافق "الزنوج" (العبيد) ولا يتزوج منهم.

لا يسمحون لهم بدخول مدارسهم وكنائسهم.

العالم كله يكره اليهودي، ولا يتحملوه إلا إذا كان ثريا.

أطلب منكم أن تلاحظوا جميع تلك التفاصيل.

مزيدا، كل شخص عاقل يمقت الضجيج.

جميع الناس، العاقلين أو المجانين، يرغبون في التنوع في حياتهم. الرتابة تنهكهم بسرعة.

كل إنسان، وفقا للمعدات العقلية التي وقعت في نصيبه، يعمل عقله دائما، دونما توقف، وهذا النشاط يشكل جزءا واسعا وجوهريا في حياته. أدنى عقل، مثل أسمى عقل، يملك مهارة من نوع ما ويتلذذ بتجريبها، بإثباتها وإتقانها. العابث المتفوق على أقرانه في اللعب لا يقل حرصا ولا تحمسا في ممارساته عن النحات، أو الرسام، أو عازف البيانو، أو عالم الرياضيات، أو غيرهم. لا يمكن أن يكون أحدهم سعيدا إذا وضعت موهبته تحت التحريم.

إذن، الأن لديكم الحقائق. تعلمون ما يتمتع به الجنس البشري وما لا يتمتع به. لقد إخترع جنة من رأسه، كل ذلك بمفرده: خمنوا ما تكون عليه! في خمس عشرة مئة أبد لن تسطيعوا ذلك! أقوى عقل معروف لكم ولي لن يستطيع ذلك في خمسين مليون دهر! حسنا، أنا سأخبركم عنها.

1 - أولا وقبل كل شيء، أستذكر لإنتباهكم الحقيقة الإستثنائية التي بدأت بها، ألا وهي أن الإنسان، مثل الخالدين، طبعا يضع الجماع إلى حد بعيد فوق كل متعة -- ورغم ذلك تركه خارج جنته! مجرد خاطرة الجماع تثيره، والفرصة تجعله متوحشا؛ في هذه الحالة يجازف بحياته وسمعته وكل شيء--حتى جنته الشاذة ذاتها--لينتهز الفرصة ويمتطيها إلى الذروة الساحقة. من الشباب إلى متوسط العمر، الرجال والنساء كافة يعشقون الجماع فوق كل المتع الأخرى مجتمعة، إلا أنه فعلا كما قلت: ليس في جنتهم؛ الصلاة تحل محله.

إنهم يعشقونه بهذا القدر؛ ولكنه، مثل كل ما يسمونها "نِعم"، شيء سيء. في أفضل وأطول ما يكون، هو فعل قصير، أقصر من الخيال -- أعني خيال الخالدين. وفي مسألة التكرار الإنسان محدود-- إلى أبعد من مفهوم الخالدين. نحن الذين نواصل الفعل بأسمى نشواته بدون إنقطاع وبدون إنسحاب لعدة قرون، لن نكون أبدا قادرين على ما يكفي من الفهم أو الإشفاق لحالة الفقر الرهيب عند هؤلاء الناس فيما يخص تلك الهبة الغنية، والتي عندما تُمتلك مثلما نملكها تجعل جميع الممتلكات الأخرى تافهة ولا تستحق عناء الجرد.

2 - في جنة الإنسان الكل يغني! الإنسان الذي لم يغني على الأرض يغني هناك؛ الإنسان الذي لم يكن قادرا أن يغني على الأرض يصبح قادرا على ذلك هناك. الغناء الشامل ليس عرضيا، ولا تعفي منه فترات هدوء؛ يستمر، طوال اليوم، وكل يوم، أثناء مدة إثنتي عشرة ساعة. ويبقى الجميع؛ بينما في الأرض يكون المكان خاليا في غضون ساعتين. الغناء من نوع الترانيم فقط. كلا، إنها ترنيمة واحدة بمفردها. الكلمات هي ذاتها على الدوام، في عددها حوالى إثني عشر، بلا قافية، ولا شعر: "هوسانا، هوسانا، هوسانا، مولانا رب الصبؤوت، را را را، سيس--بوم!... آه"

3 - في نفس الأثناء، كل شخص يعزف على قيثارة -- تلك الملايين والملايين! -- بينما لا يتجاوز العشرين في ألف منهم من إستطاع أن يعزف على أداة في الارض، أو أراد العزف على الإطلاق.

تصور الإعصار الصوتي الذي يصم الآذان--ملايين وملايين من الأصوات تصرخ في آن، وملايين وملايين من القيثارات تصر أسنانها في نفس الوقت. أسألكم: هل هي بشعة؟ هل بغيضة؟ هل رهيبة؟

وتصور أيضا: أنها نوبة من المدائح، نوبة من الثناء، من المجاملة والتملق! هل تتسألون من هو المستعد لتحمل هذا المدح الغريب، المدح المجنون؛ ومن لا يتحمله فحسب، بل يعجب به، يتمتع به، يتطلبه ويأمر به؟ أمسكوا أنفاسكم!

إنه الله! أعني إله هذا الجنس. يجلس على عرشه، في خدمته عشرون وأربعة من شيوخه وبعض الشخصيات الأخرى المرتبطة ببلاطه، ويطل على أميال وأميال من عباده العاصفين، ويبتسم، ويقرقر، ويوميء برضاه شمالا وشرقا وجنوبا، في مشهد جذاب بقدر ما أمكن تخيله في هذا الكون، على ما أرى.

ومن السهل ان نرى أن مخترع الجنة لم يبتكر الفكرة، بل نسخها من طقوس عروض دولة صغيرة يؤسف لها، ذات سيادة في المستوطنات الخلفية في مكان ما من المشرق.

كل الناس البيض العاقلين يكرهون الضجيج؛ ومع ذلك فقد قبلوا بهدوء هذا النوع من الجنة -- دون تفكير، دون تدبر، دون دراسة -- ويريدون فعلا أن يذهبوا إليها! شيوخ ورعون، يعتلي رؤوسهم الشيب، أمضوا جزءا كبيرا من وقتهم يحلمون باليوم السعيد عندما يلقون بمشاغل هذه الحياة جانبا ويدخلون في بهجة ذلك المكان. ولكن يمكنكم أن تروا كيف أنها غير واقعية لديهم، وتروا ضعف قبضتها عليهم كحقيقة، لأنهم لا ينشغلون بالإستعداد العملي للتغيير العظيم: لا ترى أبدا أحدهم مع قيثارة، ولاتسمع أبدا أحدهم يغني.

وكما رأيتم ان العرض الفريد نوبة من المدح: مدح بالترنيم، مدح بالركوع. العرض يحل محل "الكنيسة". إذن، في الارض هؤلاء الناس لا يصمدون طويلا في الكنيسة -- ساعة وربع هو الحد الأقصى، ويضعون الخط الفاصل عند مرة واحدة في الأسبوع، أي أنه يوم الأحد. يوم من سبعة؛ وحتى ذلك لا يتطلعون إليه بشوق. وهكذا -- أنظر ما توفره لهم جنتهم: "كنيسة" تدوم إلى الأبد، وسبت لا نهاية له! وسرعان ما يسأموا هذا السبت الأسبوعي القصير هنا، لكنهم يتشوقون لذاك السبت الأبدي، يحلمون به، يتحدثون عنه، يعتقدون أنهم يعتقدون أنهم سيتمتعوا به-- بكامل قلوبهم الساذجة، يعتقدون أنهم يعتقدون أنهم سيسعدوا به!

ذلك لأنهم لا يفكرون على الإطلاق؛ بل يعتقدون أنهم يفكروا. في حين أنهم لا يستطيعون التفكير؛ ولا إثنين في العشرة آلاف من البشر يملكوا شيئا ليفكروا به. أما عن الخيال--هه، حسنا، أنظر إلى جنتهم! يقبلون بها، يوافقون عليها، ويعجبون بها. إن ذلك يعلمك بمقياسهم العقلي.

4 - مخترع جنتهم يفرغ فيها جميع أمم الأرض، في خليط واحد مشترك. كلهم على مساواة مطلقة، ليس من بينهم أحد يعلو على آخر؛ لابد أن يكونوا "إخوة"؛ لابد أن يختلطوا معا، ويصلوا معا، يعزفوا قيثارة معا، هوسانا معا-- البيض والزنوج (العبيد) واليهود، الجميع -- ليس هناك اي تمييز. هنا في الأرض جميع الأمم يكرهون بعضهم بعضا، وكل واحد منهم يكره اليهود. رغم ذلك، كل شخص متدين يعشق تلك الجنة ويريد الدخول إليها. إنه حقا يعشقها. وعندما يكون في نشوة الطرب المقدس، يعتقد أنه يعتقد أنه لو كان هناك سيحمل جميع الناس إلى قلبه، ويعانق، ويعانق، ويعانق!

إنه أعجوبة -- الإنسان! يا ليتني كنت أعرف من إخترعه.

5 - كل إنسان في الأرض يمتلك حصة من العقل، كبيرة كانت أم صغيرة؛ وسواء كانت كبيرة أو صغيرة فهو يفخر بها. وينتفخ قلبه عند ذكر أسماء أعيان العاقلين المهيبين من عرقه، ويحب حكاية إنجازاتهم الرائعة. فهو من سلالتهم، وبتكريمهم لأنفسهم فقد كرموه. أنظروا ما يستطيع عقل الانسان أن يصنعه، يقول صائحا، ويتلو قائمة أسماء اللامعين من جميع العصور؛ ويشير الى الآداب الخالدة التي وهبوها للعالم، والعجائب الآلية التي إخترعوها، والأمجاد التي خلعوها على العلوم والفنون؛ ولهم يكشف كما للملوك، ولهم يقدم أعمق تحية، وأخلص ما يمكن لقلبه المبتهج أن يوفره-- وهكذا يرفع شأن العقل فوق كل شيء آخر في العالم، ويضعه على عرش هناك تحت السماء المتقوسة في سمو يستحيل الإقتراب منه. ثم يختلق جنة ليس بها خرقة من العقلية في أي مكان!

هل هي غريبة، هل مثيرة للفضول، هل محيرة؟ إنها بالضبط كما قلت، وإن بدت بشكل لا يصدق. إن هذا العاشق المخلص للعقل والمجزي السخي لخدماته العظيمة هنا على الأرض إبتكر دينا وجنة لا تكيل للعقل ثناء، ولا تغدق عليه أية ميزة، ولا ترمي له أية عطايا: في الحقيقة، لا تأتي حتى على ذكره أبدا.

إلى هنا، تكونوا قد لاحظتم أن جنة الإنسان دُرست وشيدت وفق خطة محددة مطلقة؛ وأنها مخطًََّطة لتشمل، بتفصيل جهيد، كل ما يمكن تصوره من بواعث الإشمئزاز عند الإنسان، ولا شيء واحد مما يحب!

جيد جدا، كلما نمضي قدما، كلما سيكون هذا الواقع الغريب أوضح.

لاحظوا: في جنة الإنسان لا توجد تمارين للعقل، وليس له ما يعيش عليه. سيتعفن هناك في سنة -- تعفن ونتانة. سيتعفن وينتن -- و في تلك المرحلة يصبح مقدسا. وهذا شيء مبروك: لأن المقدسين فقط يستطيعوا أن يتحملوا أفراح تلك الفوضى.

يتبع...


التسميات: ,

2007-08-14

ملاحظات حول تاريخ أعلام ليبيا*

أرجو أن تسمحوا لنا بالتعليق وإبداء بعض الملاحظات على مقالة السيد موحمد ؤمادي حول تاريخ أعلام ليبيا.

أولا، حول تاريخ علم المملكة الليبية، ذهب الكاتب إلى مصادر بعيدة ولم ينظر إلى القريبة. يقول السيد موحمد:
هذا العلم الذي نجد حول نشأته المعلومات القليلة أو المنعدمة أصلا، دولة الاستقلال حسب علمي لم تنشر في أي جرائد وحسب المعمرين من الليبيين لم تذاع عنه أي معلومات فالليبيون تفاجئوا به يرفرف على بنايات دولة الاستقلال في الثامن من مارس 1951 دون أي إخطار.

وهذه الأقوال تناقض المعلولمات التاريخية حول تأسيس المملكة الليبية، حيث أنه:

1. تم إقرار دستور الإستقلال في 7 أكتوبر 1951، وأعلنت المملكة الليبية إستقلالها في 24 ديسمبر 1951. هل كان للملكة علم يرفرف على بناياتها (في الثامن من مارس 1951) أي ما يزيد عن سبعة أشهر قبل صدور الدستور وتأسيس الدولة؟ هذه فرضية تتطلب التوضيح.

2. المادة السابعة من الفصل الأول في الدستور تنص على ما يلي:

يكون العلم الوطني على الشكل والأبعد الآتية :
طوله ضعفا عرضه ويقسم على ثلاثة ألوان متوازية أعلاها الأحمر فالأسود فالأخضر . على أن تكون مساحة اللون الأسود تساوي مجموع مساحة اللونين الآخرين وأن يحتوي في وسطه على هلال أبيض بين طرفيه كوكب أبيض خماسي الأشعة

لم يحدد الدستور تفاصيل الهلال والنجمة من حيث الأبعاد والتراصف والوجهة، ولكن رغم ذلك، فقد حدد أبعاد وألوان الأشرطة وترتيبها. ولذلك لا يصح أن أحدا تفاجأ بالعلم بعد تاريخ صدور الدستور.

بشكل عام، يبدو أن الأمور قد اختلطت على الكاتب. فمن جانب نجده يقول أن علم المملكة تعود جذوره إلى ما قبل المملكة، ولكنه يسوق مراجعا تشير إلى أعلام ليبية سابقة لا علاقة لها بالمملكة. ومن جانب آخر، نجده يرد علم المملكة جزئيا إلى علم الحركة السنوسية، وهو ما يتعارض مع تواجد العلم برمته بشكل مستقل فيما قبل. ويقول من جانب أن علم الإستقلال فاجأ الليبيين في عام 1951، أما الليبيين في تجمع الأمازيغ في عام 2007 فقد كانوا على يقين بأن هذا العلم لا يتفرد به العهد السنوسي؟ ما هو الداعي إلى كل هذا الخلط المركب وما الهدف منه؟ لاشك أن هناك أعلام ليبية سبقت علم المملكة، ولكنها ليست مركز الحديث. العلم الذي يدور حوله الحديث هو علم المملكة بالتحديد، والذي لم يوثق الكاتب وجوده خارج إطار المملكة. إذن، إلى جانب ما سماه الكاتب (العلم الأمازيغي) العلم المعروض ليس له أي قيمة وطنية إلا من خلال رمزه للملكة الليبية، وخير شاهد على ذلك هو ما ساقه الكاتب نفسه عن مجهولية هذا العلم قبل عام 1951.

للمزيد من المعلومات حول تاريخ أعلام ليبيا، قبل حتى أن تسمى ليبيا، ننصحكم بزيارة موقع (أعلام العالم) الذي يعرض تاريخ أعلام ليبيا منذ العهد العثماني، بما فيها أعلام الدولة القرمانلية التي يجهلها ويتجاهلها معظم الليبيين المعاصرين، لاسيما المغرمين بخرافة ولادة ليبيا الدولة على يد إدريس السنوسي، إلخ. وإليكم بعض النماذج من الأعلام الليبية القديمة.

علم المملكة الليبية في سنة 1951 (من موقع أعلام العالم)


علم طرابلس في سنة 1771


نموذج من أعلام الدولة القرمانلية

ويقدم موقع (أعلام العالم) وثيقة حكومية غير مؤرخة، صادرة عن وزارة الإعلام والإرشاد في المملكة الليبية، يأتي فيها ذكر المزيد من تفاصيل ومحددات الهلال والنجمة في علم المملكة، من بينها مثلا أن أحد أشعة النجمة يؤشر إلى مركز الهلال، إلخ.

وللإطلاع على رأي في رواج وإستهلاك علم المملكة كسلعة وواسطة فنية، نحيلكم إلى مقالنا السابق: ما وراء الشبابيك في فنون البراريك.

ضمير مستتر
رئيس رابطة (كرناف بلا حزام)

-------------------------------

* أرسلت الرسالة أعلاه إلى جميع المواقع التي نشرت مقالة السيد موحمد ؤمادي، وهي ( ليبيا المستقبل) و(ليبيا وطننا) و (تاوالت).
___________________

إضافة بعد النشر--17\8\07: نشرت الرسالة في موقع (ليبيا المستقبل) بجميع الروابط إلا الرابط إلى الديوان (مقالة ما وراء الشبابيك) ولم يتكرم السيد مدير الموقع (حسن الأمين) بوضع الرابط حتى بعد أن نبهته. لماذا؟ لأن السيد حسن لم يتعود على نشر أي شيء يتعارض معه أو ينتقد عمله، والعادة دايمة وتدوم. نشرت الرسالة أيضا في موقع (تاوالت) بعد أن غيروها خطأ وأزالوا منها جميع الروابط. لماذا لاينشرون الرسالة كما هي بدون زيادة أو نقصان؟ لأنهم يعتقدون أن من حقهم ومن مسؤوليتهم صناعة الخبر وليس مجرد نقل المعلومة.

إلى تاريخ اليوم، لم تنشر الرسالة في فندق حامورابي، ولم يصلنا أي رد من السيد موحمد ؤمادي.

/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_

إضافة بعد النشر--21\8\07: فاجأنا اليوم السيد حسن الأمين، مدير براكة (ليبيا المستقبل)، بنشر الرابط المفقود، وبهذا الشكل يكون قدني ها الكلوفي! صحة ليه.

التسميات: , , ,

2007-08-13

(رسائل من الأرض)

"ولماذا لا تكون الحقيقة أغرب من الخيال؟ فالخيال،بعد كل شي، لابد أن يكون معقولا."

هذه بداية محاولة متواضعة لترجمة أجزاء من (رسائل من الأرض) إلى اللسان المتجلط (العربية)، تلك الروائع التي سطرها الكاتب والناقد الإجتماعي الأمريكي (مارك توين) في بداية القرن العشرين. وقد إشتهر توين بالحكم والأقوال التي أصبحت متداولة على مستوى ثقافي وشعبي، والتي تعبر بشكل موجز مرح عن مفاهيم عميقة غائرة. (سيرة مارك توين المختصرة)

للإطلاع على النص الأصلي بالإنجليزية، نحيلكم إلى الموقع التالي.

Letters From The Earth
by Mark Twain
© Harper & Row, 1962, 1974




رسائل من الأرض

الخالق إستوى على العرش، يفكر. خلفه امتدت قارة السماء، غارقة في الضوء والألوان؛ وبين يديه قام ليل الفضاء الأسود، مثل الجدار. شمخ كلكله العظيم كالجبل الوعر صوب الذروة، وتوهج رأسه الإلهي هناك مثل الشمس النائية. عند قدميه وقف ثلاثة عمالقة، تقلصوا الى درجة التلاشي، تقريبا، بالمقارنة -- رؤساء الملائكة -- رؤوسهم على مستوى كاحله.

عندما انتهى الخالق من التفكير ، قال : "لقد فكرت. ها!"

رفع يده ، ومنها تفجرت ينبوع ترش النار، مليون شمس هائلة، فطرت السواد وارتفعت بعيدا وبعيدا وبعيدا، حجمها وبريقها في تناقص بينما تثقب حدود الفضاء البعيدة، إلى أن صارت في النهاية رؤوس مسامير ماسية تتألق تحت قبة سقف الكون الشاسعة.

وفي نهاية ساعة فُض المجلس الأعلى.

تركوا الحضرة الإلهية معجبين ومحملين بالأفكار، وذهبوا إلى مكان خاص، حيث يمكن أن يتحدثوا بحرية.

لم يبد أن أحد الثلاثة كان راغبا في البدء، رغم أنهم جميعا أرادوا أن يبادر أحد ما بالحديث. كان كل منهم يحترق توقا لمناقشة الحدث العظيم، ولكن يفضل أن لا يلزم نفسه حتى يتعرف على نظرة الآخرين. لذلك دار بعض الحديث المتقطع بلا هدف، حول أمور لا طائل منها، وجر على طول مضجر دون الوصول إلى أية غاية، إلى أن جمع الملاك (الشيطان) شجاعته--والتي كان له منها نصيب وافر-- وخرق الصمت، قائلا: "إننا نعرف ما نحن هنا بصدد الحديث عنه، يا سادتي، فمن الأفضل أن نضع التكلف جانبا، ولنبدأ. إذا كان هذا هو رأي المجلس--"

"هذا هو، هذا هو،" قاطع جبريل وميخائيل بإمتنان.

"جيد جدا، إذن، فلنباشر. لقد شهدنا شيئا رائعا؛ على ذلك نحن بالضرورة متفقون. اما بالنسبة لقيمته--إذا كانت هناك أية قيمة -- فذلك أمر لا يهمنا شخصيا. يمكن أن تتعدد آراءنا بشأنه كما نشاء، وتلك هي حدودنا. ليس لدينا اي تصويت. أنا أعتقد أن الفضاء كان جيدا بما فيه الكفاية، كما كان، ومفيدا ايضا. بارد مظلم-- مكان مريح، بين الحين والآخر، بعد موسم من الطقس المفرط النعومة والروائع المنهكة في الجنة. ولكن هذه تفاصيل لا إعتبار لها؛ السمة الجديدة، السمة الهائلة، هي--ماذا، أيها السادة؟"

"إختراع وعرض قانون تلقائي، بدون رقيب، منتظم ذاتيا، للتحكم في أعداد كبيرة من الشموس والعالمين الدائرة المتسابقة."

"هذا هو،" قال الشيطان. "أنتم رأيتم أنها فكرة رائعة. لم يسبق لها مثيل من (الفكر السيد). قانون-- قانون تلقائي -- دقيق وثابت-- لا يتطلب أية مراقبة ولا أي تصحيح ولا تعديل إبان الخلود. قال جلالته أن تلك الأجرام الضخمة التي لاتحصى ستغوص عبر خلائات الفضاء عصورا وعصور، بسرعة لا يمكن تصورها، على مدارات هائلة، ورغم ذلك لا تصطدم أبدا، ولا تطول ولا تقصر فترات مدارها بقدر جزء من مائة من الثانية في ألفي عام! هذه هي المعجزة الجديدة، وأعظم المعجزات-- القانون التلقائي.. وأطلق عليه إسما --قانون الطبيعة-- وقال أن القانون الطبيعي هو قانون الله-- أسماء متبادلة لشيء واحد."

"نعم،" قال ميخائيل، "وقال أنه سينشيء القانون الطبيعي--قانون الله--في جميع مواطن حكمه، وسلطته ينبغي أن تكون العليا ولا تخرق حرمتها."

"أيضا،" قال جبريل، "قال أنه سيخلق حيوانات وسيضعهم بالمثل تحت سلطة هذا القانون."

"نعم،" قال الشيطان، "سمعته ولم أفهم. ما هي الحيوانات يا جبريل؟"

"أه، كيف لي أن أعرف؟ كيف لأي منا أن يعرف؟ إنها كلمة جديدة."

(فترة ثلاثة قرون، بالتوقيت السماوي-- ما يعادل مئة مليون عام بالتوقيت الأرضي. دخول ملاك الرسائل)

"يا سادتي، إنه يصنع الحيوانات. هل يطيب لكم أن تأتوا وتشاهدوا؟"

ذهبوا، وشاهدوا، واحتاروا--حيرة عميقة-- لاحظها الخالق وقال: "أسأل. سأجيب."

"إلهي،" قال الشيطان ساجدا، "ما الغرض منهم؟"

"إنها تجربة في الأخلاق والسلوك. راقبوهم وخذوا التعليمات."

هناك آلاف منهم، وكانوا ملآنين نشاطا. مشغولون، جميعهم مشغولون -- بإضطهاد بعضهم البعض أساسا. لاحظ الشيطان--بعد فحص أحدهم من خلال مجهر قوي: "هذا الوحش الكبير يقتل الحيوانات الأضعف، يا إلهي."

"النمر--نعم. قانون طبيعته هي الوحشية. قانون طبيعته هو قانون الله. لا يستطيع أن يعصيه."

"إذن، بطاعته لا يرتكب ذنبا، يا إلهي؟"

"كلا، لا حرج عليه."

"هذا المخلوق الآخر، هنا، إنه خجول، يا إلهي، ويعاني الموت دون مقاومة."

"الأرنب--نعم. هو فاقد الشجاعة. إنه قانون طبيعته--قانون الله. لا بد أن يطيعه."

"إذن لا يمكن أن يطالب بشكل شريف أن يتعارض مع طبيعته ويقاوم، يا إلهي؟"

"كلا، لا يمكن بشكل شريف أن يطالب أي مخلوق بأن يتعارض مع فطرته-- قانون الله."

بعد فترة طويلة وتساؤلات كثيرة، قال الشيطان: "العنكبوت يقتل الذبابة، ويأكلها. العصفور يقتل العنكبوت ويأكله؛ القط البري يقتل الأوزة؛ الـ --حسنا، إنهم جميعا يقتلون بعضهم البعض.. إنه إغتيال على طول الخط. هاهنا مجموعات غفيرة لاتحصى من المخلوقات، وكلها تقتل وتقتل وتقتل. كلهم قتلة، ولا لوم عليهم يا مولاي؟"

"لا لوم عليهم. إنه قانون طبيعتهم. ودائما قانون الطبيعة هو قانون الله--إنتبه--ها! مخلوق جديد--وتحفة--الإنسان!"
رجال ونساء وأطفال جاؤوا يعجون أسرابا، قطعانا، بالملايين.

"ماذا ستفعل بهم يا إلهي؟"

"ضع في كل فرد، وبدرجات وأطياف مختلفة، جميع الصفات الأخلاقية المتنوعة، بالجملة، والتي وزعت في عالم الحيوانات غير الناطقة كل سمة مميزة على حدة--الشجاعة، الجبن، الشراسة، الدماثة، الإنصاف، العدالة، الخداع، الغدر، الشهامة، القسوة، الخبث، الشهوة، الرحمة، الشفقة، النقاء، الأنانية، الحلاوة، الشرف، الحب، الكراهية، الخسة، النبل، الإخلاص، البطلان، الصدق، الكذب -- كل إنسان سيحمل كل هذه الصفات في شخصه. وهي التي ستشكل طبيعته. في البعض، ستكون هناك سمات راقية تغمر أشرارهم، وأولئك سيعرفون بالصالحين؛ وفي آخرين، ستسود السمات الشريرة، وأولئك سيعرفون بالسيئين. إنتبه--ها--إختفوا!"

"إلى أين هم ذهبوا ، إلهي؟"

"إلى الأرض -- هم وجميع زملائهم من الحيوانات".

"ما هي الأرض؟"

"كرة صغيرة صنعتها منذ زمن... زمنين ونصف زمن. أنتم رأيتوها ولكن لم تلاحظوها في إنفجار الكواكب والشموس التي تدفقت من يدي. الإنسان تجربة، والحيوانات الأخرى تجربة أخرى. والزمن كفيل بأن يرينا ما إذا كانوا جديرين بالعناء. إنتهى العرض، ولكم الإذن بالخروج يا سادة."

مرت عدة أيام. هذا يعني فترة طويلة من زمنـ(نا)، لأن اليوم في الجنة يساوي ألف سنة. الشيطان كان يبدي إعجابه في ملاحظات حول بعض صناعات الخالق المتألقة--ملاحظات يجري فيها التهكم بين السطور. وكان قد أسر بها لأصحابه الأمناء، كبار الملائكة الآخرين، لكن بعض الملائكة العاديين سمعوا ونقلوا الخبر إلى مقر القيادة. جاء الأمر بنفيه لمدة يوم--من أيام السماء. وكان عقابا تعود عليه بسبب مرونة لسانه. وقد تم ترحيله سابقا إلى الفضاء، لأنه لايوجد مكان آخر لإرساله، وكان قد رفرف ضاجرا هناك في الليل الأبدي والبرد القطبي؛ أما الآن فقد خطر بباله أن يتمادى ويتصيد الأرض ليرى تطورات تجربة الإنسان.

ومع مرور الزمن راسل الوطن--بإستتار شديد--ليخبر عنها سيدنا ميخائيل وسيدنا جبريل.



رسالة الشيطان

هذا مكان غريب، خارق للعادة، ومثير للإهتمام. ليس له شبيه في الوطن. الناس كلهم مجانين، والحيوانات الأخرى كلها مجانين. الأرض مجنونة. الطبيعة ذاتها مجنونة. الإنسان فزورة رائعة. في أحسن أحواله، هو ملاك من النوع الرديء المطلي بالنيكل، وفي اسوأ أحواله لا يوصف، ولا يمكن تصوره؛ وأولا وأخيرا ودائما هو مدعاة للتهكم. ولكنه بكل برودة وبكل إخلاص يطلق على نفسه اسم "أنبل أعمال الله". هذه هي الحقيقة، انا اقول لك. وهذه ليست فكرة جديدة عنده، فقد تحدث بها خلال جميع العصور، وصدقها. نعم، صدقها، ولم يجد أحدا بين جميع بني جلدته ليسخر منها.

علاوة على ذلك -- اذا جاز لي وضع ضغط آخر عليكم -- يظن انه هو أليف الخالق. يؤمن بأن الخالق فخور به؛ بل حتى بأن الخالق يحبه؛ ويتقد توقا إليه؛ يسهر الليالي معجبا به؛ نعم، يرعاه ويقيه من المحن. هو يصلي لله، ويعتقد انه سميع. أليست هذه فكرة حلوة؟ يملأ صلواته لله بالتملق العاري الركيك، ويعتقد أنه يجلس مقرقرا مع هذه الأتراف ويتلذذ بها. يدعو من اجل المساعدة، والمحاباة، والحماية، كل يوم؛ ويفعل ذلك بأمل وثقة أيضا، رغم أنه لم يستجاب له دعاء واحد قط. الإهانة اليومية، الهزيمة اليومية، لا تثنيه، فهو يمضي في صلاته بلا تغير. ثمة شيء قريب من الرقي في هذه المثابرة. ولا بد لي من طرح المزيد من الضغط عليكم: انه يعتقد انه ذاهب الى الجنة!

عنده معلمون يتقاضون رواتب وهم من يخبره بذلك. كما أنهم يخبروه بأن هناك جحيم من نار أبدية، وانه سيذهب إليه إذا لم يتبع الوصايا. ما هي الوصايا؟ إنها مثارة فضول. سأخبركم عنها لاحقا.

--يتبع

-----------------------------

عدلت الترجمة بتاريخ ٢٢ مارس ٢٠١٠.

التسميات: ,

2007-08-07

بنغازي: عاصمة الثقافة والمعارضة أم مقبرة إستعراضية؟

لاحظنا منذ أشهر تزايد الضجيج في براريك الغضب حول ما يسمى الجهوية تارة والنعرة القبلية تارة أخرى، ويبدو أن معظم النقاش يدور في غرف الدروشة، أو خلوات (البالتولك) التي يقطنها الدراويش، ثم تتبع الردود بنصوص معلقة على جدران البراريك. طبعا، إذا نظرنا إلى تفاصيل هذه الهيدقة سنصاب بالدوار وزهاق الكبد، ولن نذهب إلى ذلك. ولكن، لا أظن أن هناك إختلاف في أن معظم االتهريجات تأتي من مقام (يانا علي يابريقتي) وعلى لسان النادبين المعهودين مثل الهيدوق جاب الله حسن وشركاءه، بينما تأتي معظم الردود بشعارات (وحدة الوطن) و(كلنا في الهوا سوا)، حيث أننا لانجد إلا نادرا من يدعي أفضلية طرابلس أو تميزها في هذا الشأن أو ذاك. وهذا أمر طبيعي لأن طرابلس لاتعاني من الدونية على الصعيد الداخلي.

إلى جانب التهريجات العارية، هناك نماذج أخرى من عقدة الدونية، ربما تكون أقل صراحة ووفرة، تظهر بلباس الثقافة والتاريخ، وتتمثل بوضوح في عبارة (بنغازي عاصمة الثقافة) التي يروجها أمثال السيد فرج نجم، والمعروف بالدكتور المؤرخ في براريك الغضب، والسيد عيسى عبد القيوم، أحد هواة الصحافة في الخارج، والهيدوق عبد القادر الدرسي، عضو اللجان الثورية وممثل ما يسمى بالصحافة الإصلاحية في الداخل، وغيرهم.

وقد سبق أن أشرنا إلى أن فكرة (العاصمة الثقافية) هي وليدة كيان خرافي يسمى (ليبيا الحديثة) إستنادا إلى التسمية التي إخترعها السيد مجيد خدوري ليعنون بها كتابه الشهير. ولكن الكتاب صدر باللغة الإنجليزية واستهدف قراء المجتمع الغربي أينما كان إسم (ليبيا) مرتبطا بمعناه التاريخي القديم الوارد في كتب الإغريق ومن تلاهم. ومن هذه الخلفية تأتي كلمة (الحديثة) مقاربة لمعنى (المعاصرة) ولا يصح ربطها بمعاني الحداثة كما لايصح ربطها بالعهد السنوسي تحديدا أو مايسمى عصر مابعد الإستعمار\الإستقلال. ولكن الكثيرين من الكتاب وغيرهم من الليبيين يظنون أن ما يسمى اليوم ليبيا لم يكن يوما تحت سيادة محلية موحدة قبل تأسيس المملكة السنوسية. وهذه مغالطة شائعة تتجاهل أن إيطاليا هي التي أخرجت إسم ليبيا لتشتيت الثقل السياسي لطرابلس، وهي أيضا مغالطة تدعمها عنصرية عروبية لاتعترف بوطنية الدولة الكرغلية التي سادت الإقليم الجغرافي المعروف بليبيا الآن وبطرابلس آنذاك، والتي أثبتت سيادتها عليه في العديد من النواحي وبشتى الأشكال، لعل من أهمها إجلاء قبائل من برقة إلى مصر، واستيطان الكراغلة في المناطق التي حرروها ثم عمروها من بنغازي إلى درنة. وقد سبقت سيادة الدولة الكرغلية بقرن من الزمان وصول السنوسيين إلى تراب ليبيا، ناهيك عن وصولهم إلى سدة الحكم. المهم أن خرافة ليبيا الحديثة هي الأرضية التي يطرحها العديدون لدعم ثنائية مزيفة ومقابلة كاذبة بين ما يسمى برقة وما يسمى طرابلس، والتي كان من أهم شروط تسويقها ترقية شأن مدينة بنغازي نسبيا، فجلبوا لها قبر المختار وأسسوا بها الجامعة الليبية، وبعد فشل فكرة (العاصمة الثانية) إخترعوا لها إسم (العاصمة الثقافية) وما هي بعاصمة، لاثقافية ولا إقتصادية ولا حتى رعوية.

ما جرنا إلى كتابة هذه المقالة هو ما لاحظناه في البراريك من دعوات إلى النظر بموضوعية ودراسة التباين الطرابلسي-البرقاوي والطرابلسي-البنغازي، ولعل أبرز هذه الدعوات تلك التي ركزت على جانب المعارضة السياسية، وأتت من السيد يوسف المجريسي، حيث قال:

يجب ألا ننكر أن هناك فجوة كبيرة من الثقة بين أهل برقة وأهل طرابلس، فالعلاقات لم يسُدْها أبداً التآلف والمودة المعهودين بين أبناء الوطن الواحد منذ الغزو الإيطالي، وربما قبل ذلك، رغم أن العديد من عائلات برقة تنحدر أصولها من غرب ليبيا. وما نظهره على الملأ شيء، وما يجري خلف الكواليس شيء آخر، وربما كانت هذه الازداوجية سبباً في فرقتنا ومآسينا. فهذا النفاق الاجتماعي الذي نحياه في الداخل والخارج هو الذي حال بيننا وبين أن نسلط الضوء على الفجوة العصبية التي تفصل شرق البلاد وغربها حتى نتدارسها معاً بروح الصدق والصراحة وتحت قبة واحدة هي قبة الولاء لوطن نحن جميعاً أبناؤه، أرضاً ومصيراً، حاضراً ومستقبلاً.

...

فلا مفر من أن نقر ونعترف أن أهل طرابلس لا يشكلون إلا نسبة قلية جداً من رجال المعارضة، مقارنة بعدد سكانها، على عكس بقية مناطق ليبيا، فمعارضة الطرابلسيين للقذافي اقتصرت على قلة مشكورة من المثقفين وأصحاب الاتجاه الإسلامي

...

هذه ظاهرة موجودة، ونكذب على أنفسنا إذا أنكرناها، ولابد من مناقشة أسبابها لمعرفة الخلل الرهيب في تركيب المعارضة الوطنية في المنفى. لماذا يعزف الطرابلسيون، إلا من رحم ربي، عن معارضة حكم القذافي؟

لا أظن أن هناك أي لبس أن (طرابلس) فيما ساقه الكاتب تعني (طرابلس الكبرى) أو ما كان يعرف بولاية طرابلس حسب تعريف العهد السنوسي. ولكن الكاتب تراجع في سياق لاحق بأنه لم يقصد ذلك وإنما قصد مدينة طرابلس تحديدا، ثم أضاف:



أنا لا اتهم أحداً بأي شيء، ولست ابتغي من كلامي هذا إثارة النعرات، أو النيل من إخوتنا الطرابلسيين، وإنما أعرض الحقائق كما هي، وأكون ممتناً لأي شرح لهذه الظاهرة سواء جاء من طرابلس أو من بنغازي أو من واق الواق.

جميل جدا! وأنا بصفتي عميد بلدية الواك واك، أقبل دعوة السيد المجريسي في إطار الحوار الموضوعي والمبني على حقائق إحصائية، في محاولة لتسليط المزيد من الضوء حول مسألة إنتشار وتنوع الثقافة والمعارضة السياسية على الوسعاية الليبية.

ولكي نهيء الساحة تحت قبة الوطن الواحد، ومجاراة لما أورده السيد المجريسي من أشعار الهجاء الجغرافي، سأستذكر هنا حكاية طريفة قد تساهم في ترطيب الأجواء و تأطير الإختلاف داخل دائرة الإتحاد.

تعود بنا الذاكرة إلى صيف من أصياف السمر، إلى عرس جمع شاب بنغازي من أصول مصراتية بعروس مصراتية مقيمة في مصراتة. ومن المعلوم عن عادات الأعراس الليبية أن عائلة العريس توفد ممثلات ليصاحبن العروس إلى بيتها الجديد، وأن الفرقة تشتبك مع الأصهار الجدد في مناظرات غنائية يقترن فيها الفخر بالهجاء في سياق إتحادي وتحت مظلة فنية، وتسمى تلك القذائف المتبادلة (شتاوة) بلغة مصراتة وبنغازي على السواء. فما أن وصلت البنغازيات (المصراتيات أصلا) إلى بيت العروس وشرعن في إنزال العلايق حتى إستقبلتهن المصراتيات المحليات بشتاوة إفتتاحية طاعنة تقول:

تره زيدوها الشربة مي ... بقر بنغازي هاهو جي

ولكن بعد وصلة زلزالية قصيرة، تقدمت إحدى حاملات الكردان (وحدة حرشة وملسنة، تسمع في وإلا لا، تخط عليها الوقيد يشعل!) وصاحت في ردائها الأبتر:

بقر بنغازي جاب عجول ... يشيلن في الزول المزطول

كيخ كيخ كيخ!

في هذا الإطار نطرح المسألة على وجه التحديد: بالنظر إلى ما تنشره براريك الغضب، يبدو أن هناك نسبة كبيرة من البنغازيين في صفوف المعارضة الليبية، كما يبدو أيضا أن نصيب البنغازيين من النتاج الثقافي الليبي أكبر من نصيبهم في تعداد السكان في ليبيا. هل هذا صحيح، أولا، وما هو السبب؟

الإجابة لن تكون مباشرة، بل سنضعها على شكل سؤال مشابه ومدعم بقرائن إحصائية مستقلة. والموضوع الذي سنستيعره سبق أن تطرقنا إلى جانب آخر من جوانبه في مقالة بعنوان (ولع التعازي، تقديس أم تدنيس؟) حيث أشرنا إلى تفشي عادة التعازي الإستعراضية بين الليبيين وأوردنا بعض الأمثلة. واليوم نعود إلى سوق التعازي لنلقي نظرة على توزيعها النسبي بين مختلف المدن الليبية.

لقد قمت بإحصاء جميع التعازي التي نشرت في فندق حامورابي للتواليف (ليبيا وطننا) في الفترة ما بين مارس وأوائل أغسطس من هذا العام، وصنفت الوفيات حسبما ورد في التعازي عن محل إنتماء أو إقامة المتوفي، ثم وضعت النتائج في الشكل البياني التالي.


إذا كان الشبح بالهون، طقطق على الصورة.

ماذا تقول الأرقام؟

تقول أن نصيب بنغازي أكبر بكثير من أي مدينة أخرى. لاحظ أن عدد الوفيات في بنغازي يساوي وفيات المدن الأخرى مجتمعة، ويفوق نصيب أي مدينة على حدة بأضعاف مضاعفة، حتى طرابلس التي يفوق تعداد سكانها ضعف سكان بنغازي.

السؤال: هل يعني هذا أن معدل الوفاة في بنغازي يفوق نظيره في طرابلس بأضعاف؟ مشكوك.

وهل يعني أن أهل طرابلس لا يقومون بواجب العزاء أو أنهم لايواسون أحبابهم ولا يكرمون موتاهم؟ في الشك يا.

وهل يصح بناء على هذه الحقائق أن نعلن بنغازي عاصمة الموت في ليبيا؟ ياودي هئه.

وهل يمكن أن نقبل مثل هذه الأرقام كدليل أو مؤشر على تفاوت معدلات الأضطهاد في مختلف مدن ومناطق ليبيا؟ يمكن الغزال يحك!

هناك تفاصيل عديدة جديرة بالدراسة والمقارنة، وليس هناك مجال لذكرها جميعا هنا. هناك مثلا ظاهرة التكتلات العزائية المعنية بتقديم التعازي من مجموعات متناسقة سياسيا يمكن أن نسميها أحزاب عزائية. وهناك أيضا العديد من التعازي التي لم تحدد إنتماء المتوفي، أو توقفت عند كونه ليبيا، من بينها مثلا التعازي التي نشرت بمناسبة وفاة عبد الحميد البكوش والتي لم يرد فيها--رغم كثرتها--أي نسبة قبلية أو جغرافية سوى نسبته إلى ليبيا. أنصح القاريء أن يقارن التعازي المقدمة في وفاة البكوش بما سبقها في وفاة مازق، وهناك ستجد الفروق الشاسعة، رغم أن البكوش إستمر في عمله السياسي بعد إنقلاب القذافي، بخلاف السيد مازق الذي اعتزل السياسة ولم يكن له أي حضور على المستوى العام منذ عشرات السنين.

إذا ماذا تعني هذه الأرقام، ومن يستطيع أن يفسرها لنا منطقيا، بمنطق بنغازي، طرابلس أو حتى بمنطق الواك علينا واك؟ وما صلة التعازي بالمعارضة والثقافة؟

أنا أقول أن الرابط بينها جميعا هي الإستعراضية، بل إستعراضية النكد والمآسي على وجه الخصوص. إن ما يسميه البعض معارضة هو في الحقيقة إستعراضية نكدية على مسرح سياسي، والأمر مطابق في الجانب الثقافي. ولا يفوتنا أن نقول أن هذه الإستعراضية لها مفاسد جانبية حيث أنها تشجع النيابية، أو قل أنها تسد الطريق أمام المعارضة العقلانية والثقافة العميقة الغير شعارية. وفي هذا الشأن هناك توازي بين العمل السياسي وما يحدث في المآتم، فمن المعلوم أن مآتم بنغازي أكثر إستعراضية، وأن إستعراضية المآتم بشكل عام يتولاها عادة قلة من الأفراد نيابة عن باقي الحضور.

نعم، بكل بساطة، نقول للسيد المجريسي أن المعارضون القدامى أصبحوا مثل الممثلين المخضرمين، أو شيوخ الحضاري، الذين يعرّفون عملهم بشكل لايقبل ولا يشجع الدماء الجديدة على الإنخراط، بل يكبلهم في قوالب تقليدية لا تترك مجالا للإبداع والإختلاف، وكل من يريد أن يتأكد من ذلك فما عليه إلا مقارنة التعازي ويسأل أين وكيف يكون هناك أي جديد.

أقول قولي هذا، وأتمنى لي ولكم ما اشتهيتم من الهبر والسليان.

التسميات: , ,