رسائل من الأرض-٣
" من لا يقرأ كتبا جيدة ليس له ميزة على من لا يستطيع قراءتها."
هذه ترجمة الرسالة الثالثة من سلسلة (رسائل من الأرض) للكاتب الأمريكي (مارك توين). يمكنكم الإطلاع على الأجزاء السابقة هنا وهنا. وللإطلاع على النص الأصلي بالإنجليزية، نحيلكم إلى الموقع التالي.
Letters From The Earth
by Mark Twain
© Harper & Row, 1962, 1974
_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/
الرسالة 3
لقد لاحظتم ان الكائن البشري مثير للفضول. في الماضي كانت لديه المئات والمئات من الأديان (أبادها وألقى بها بعيدا)؛ اليوم لديه المئات والمئات من الأديان، ويطلق ما لا يقل عن ثلاثة أديان جديدة كل سنة. أستطيع ان أضخم هذا العدد وأظل في داخل حدود الحقائق.
واحد من أهم أديانه يسمى المسيحية. سيثير إهتمامكم وصفه المقتضب. يتبين بالتفصيل في كتاب يحوي مليونى كلمة، يسمى العهد القديم والعهد الجديد. كما أن له إسم آخر -- كلام الله. فالمسيحي يعتقد أن كل كلمة فيه أملاها الله--ذلك الذي أتحدث عنه.
إنه مليء بالإثارة. فيه شعر نبيل؛ وبعض الخرافات الذكية؛ وبعض التاريخ الملطخ بالدم؛ وبعض الأخلاق الحميدة؛ وثروة من الفاحشة؛ وما يفوق الألف أكذوبة.
هذا المصحف بني أساسا من شظايا كتب أقدم، عاشت يومها وتداعت إلى الخراب. وهكذا فهو يفتقد الأصالة بشكل ملفت، بالضرورة. أهم وأعجب ثلاثة أو أربعة من أحداثه وقعت جميعها في كتب سابقة؛ وأفضل المباديء وقواعد السلوك التي فيه جاءت ايضا من هذه الكتب؛ ولا يوجد به سوى شيئين جديدين: جهنم واحدة، وتلك الجنة المفردة التي أخبرتكم عنها.
ماذا سنفعل؟ إذا إعتقدنا، مع هؤلاء الناس، أن إلهم إخترع هذه الاشياء القاسية، سنفتري عليه؛ وإذا إعتقدنا أن هؤلاء الناس إخترعوها بأنفسهم، سنفتري عليهم. إنها معضلة غير سارة في كلتا الحالتين، لأنه لم يلحقنا أي ضرر من كلا الجانبين.
من أجل السكينة، فلننحاز إلى جهة. فلنوحد قوانا مع الناس ونضع كل هذا العبء الفظ عليه-- الجنة وجهنم، والمصحف والجميع. قد لا يبد ذلك صائبا، ولا عادلا؛ ولكن عندما تضعون تلك الجنة في الإعتبار، وكيف أنها مشحونة بكل ما يثير الإشمئزاز لدى الإنسان، كيف نصدق أن إنسانا اخترعها؟ وعندما آتي على خبر جهنم، ستكون الوصمة أكبر وأكبر، وعلى الأرجح ستقولون كلا، الإنسان لا يمكن أن يأتي بذلك المكان، سواء لنفسه أو لأحد كان؛ أنه ببساطة لا يستطيع ذلك.
ذلك المصحف البريء يتحدث عن الخلق. خلق ماذا--الكون؟ نعم الكون. في ستة أيام!
الله فعل ذلك. ولم يطلق عليه إسم الكون -- ذلك الإسم حديث. كل إهتمامه إنصب على هذا العالم. شيده في خمسة أيام -- وبعد ذلك؟ استغرق يوما واحدا فقط لصنع عشرين مليون شمس وثمانين مليون كوكب!
وماذا كان الغرض منها-- وفقا لهذه الفكرة؟ لتقدم الضوء لهذا العويلم اللعبة. هذا كان كل غرضه؛ لم يكن له غيره. واحدة من العشرين مليون شمس (أصغر واحدة) لتضيئه في النهار، والباقي لمساعدة واحدة من أقمار الكون التي لا تحصى لتعدل ظلام لياليه.
يتضح تماما إعتقاده بأن سماءه البكر بذرت بالماس وتلك الجموع من النجوم المتلألئة لحظة غوص شمس أول أيامه تحت الأفق؛ بينما في الواقع، ولا نجم واحد غمز في ذلك القبو الأسود حتى ثلاث سنوات ونصف بعد أن كانت الصناعات الهائلة قد إكتملت في ذلك الأسبوع الذي لا ينسى.[*] ثم بدا نجم واحد، وحيد على إنفراد، وبدأ يرمش. بعد ذلك بثلاث سنوات ظهر نجم آخر. ورمش الإثنان معا لأكثر من أربع سنوات قبل ظهور ثالثهم. في نهاية المائة سنة الأولى لم يكن هناك خمسة وعشرون نجما يتلألأ في الخلاءات الشاسعة لتلك السموات الكئيبة. في نهاية الألف سنة لم يكن هناك من النجوم المرئية ما يكفي لتقديم عرض. وفي نهاية مليون سنة مجرد نصف طائفة الوقت الحاضر كانت قد أرسلت أضواءها على مدى الحدود التيليسكوبية، واستغرقت البقية مليون سنة أخرى لتحذو حذوها، كما تقول العبارة الركيكة. وبما أنه لا يوجد في ذلك الوقت أي تيليسكوب، لم يُشهد حلولها.
لمدة ثلاث مائة سنة، الآن، عرف عالم الفلك المسيحي أن إلهه لم يخلق النجوم في تلك الأيام الستة الهائلة؛ ولكن الفلكي المسيحي لا يتوسع بتلك الجزئية. ولا الكاهن.
في كتابه، الله بليغ في شكره لأعماله العظيمة، ويدعوها بأكبر الأسماء التي يمكن أن يجدها--مما يشير إلى أنه يملك إعجابا شديدا وعادلا بالضخامة؛ ولكنه خلق هذه الملايين من الشموس المذهلة لتضيء هذا الجرم الضئيل، بدلا من تعيين شمس هذا الجرم الصغيرة لترقص حاضرة عليهم. يذكر السماك الرامح {نجم يسمى أيضا حارس السماء}** في كتابه--أنتم تذكرون السماك الرامح؛ ذهبنا إلى هناك مرة. هو واحد من مصابيح ليل الأرض! -- تلك الكرة العملاقة، حجمها أكبر من شمس الأرض بخمسين ألف مرة، وتقارن بها كمقارنة البطيخة بالكاثدرائية.
ومع ذلك، لا تزال مدرسة يوم الأحد تعلم الطفل أن السماك الرامح انشيء ليساعد على إضاءة هذه الأرض، وينمو الطفل وطالما يظل مصدقا بعد أن يكتشف أن الإحتمالات تتعارض مع كونه كذلك.
حسب الكتاب وخدمه، الكون عمره ستة آلاف سنة فقط. لم يحدث إلا في المائة سنة الماضية أن عقولا مجتهدة مستفسرة وجدت أن عمره أقرب إلى مائة مليون سنة.
خلال الستة أيام، الله خلق الإنسان وسائر الحيوانات.
خلق رجلا وامرأة وأسكنهما حديقة سارة، مع سائر المخلوقات. عاشوا جميعا في وئام وقناعة وشباب مزدهر لبعض الوقت؛ ثم جائت المشاكل. كان الله قد حذر الرجل والمرأة أن لا يأكلا من ثمرة شجرة معينة. وأضاف ملاحظة من أغرب ما يكون: قال أنهما إذا أكلا منها ستكون موتهما مؤكدة. ملاحظة غريبة والسبب أنه طالما لم يسبق لهم أن يروا عينة من الموت، فلا يمكن أن يعرفوا ما كان يقصده. لا هو ولا أي إله آخر كان قادرا أن يجعل هؤلاء الاطفال الجهلة يفهمون المعنى المقصود، دون تقديم عينة. الكلمة المجردة لايمكن أن تعني لهم شيئا أكثر مما تعنيه لرضيع عمره أيام.
وحالا كان ثعبان يبحث عنهم سرا، وجاءهم يمشي مستقيما، مثلما كانت عادة الثعابين في تلك الأيام. قال الثعبان أن الثمرة المحرمة يمكن أن تملأ عقولهم الشاغرة بالمعرفة. فأكلوها، وكان ذلك أمرا طبيعيا، فالإنسان خلق متلهفا للمعرفة؛ بينما الكاهن، مثل الله، الذي يمثله ويقلده، جعل من إختصاصه منذ البدء أن يحول بينه وبين معرفة أي شيء مفيد.
آدم وحواء أكلا الثمرة المحرمة، وعلى الفور تدفق في رؤوسهم القاتمة ضوء عظيم. إنهم إكتسبوا المعرفة. أي معرفة -- المعرفة المفيدة؟ كلا -- فقط معرفة أن هناك شيء ما كالخير، وشيء ما كالشر، وكيف يعملوا الشر. لم يستطيعوا أن يفعلوا ذلك من قبل. لذا كل أعمالهم حتى هذا الوقت كانت دون وصمة، دون لوم، دون مخالفة.
أما الآن يمكن أن يعملوا الشر-- ويعانوا من جراء ذلك؛ الآن حصلوا على ما تسميه الكنيسة مِلك لا يقدر بثمن، الحاسة الأخلاقية؛ تلك الحاسة التي تميز الإنسان عن الحيوان، وتضعه في أعلى مرتبة. بدلا من أدنى الوحوش -- أينما يفترض المرء أن يكون مكانه المناسب، لأنه دائما قذر الفكر ومذنب، والحيوان دائما نظيف الفكر وبريء. وذلك الترتيب شبيه بجعل ساعة لابد لها أن تخطأ أثمن من ساعة لايمكن أن تخطأ.
الكنيسة لا تزال تثمن العقل الأخلاقي كأنبل ما يملكه الإنسان، رغم أن الكنيسة تعلم أن الله رأى أنه سيئ بتميز وفعل كل ما باستطاعته وبطريقته المرتبكة ليمنع (أطفال الحديقة) السعداء من الحصول عليه.
جيد جدا، آدم وحواء الآن يعرفوا ما هو الشر، وكيف يعملوه. انهم يعرفون كيفية القيام بمختلف انواع السيئات، وبينها واحدة رئيسية-- الواحدة الرئيسية التي شغل الله بها فكره. وهي فن ولغز الجماع. بالنسبة لهم كان اكتشافا رائعا، وتوقفوا عن التسكع، وصوبوا نحوه كامل إنتباهم، أولئك الشباب المبتهجون المساكين!
في خضم إحدى هذه الإحتفالات سمعوا الله يمشي بين الشجيرات، كما كانت عادته بعد الظهر، وصعقهم الخوف. لماذا؟ لأنهم كانوا عراة. لم يعرفوا ذلك من قبل. لم يتضايقوا من قبل، ولا الله.
في تلك اللحظة التي لا تنسى ولد التكبر؛ ومن الناس من عظم شأنه منذ ذلك الحين، رغم أن تفسيره من المؤكد أن يحيرهم.
آدم وحواء دخلوا إلى العالم عراة وبلا حياء-- عراة بفكر نقي؛ ولا أحد من سلالتهم دخله يوما بخلاف ذلك. الجميع دخلوه عراة بلا حياء، نظيفة عقولهم. دخلوه بتواضع. كان عليهم أن يكتسبوا التكبر والعقل المتسخ؛ ولم تكن هناك طريقة اخرى للحصول عليه. أول واجبات الأم المسيحية أن توسخ عقل طفلها، و هي لا تهمل هذا الواجب. ويكبر فتاها ليكون مبشرا، ويذهب إلى البدائيين الأبرياء والمتحضرين اليابانيين، ويوسخ عقولهم. عندئذ يعتمدوا التكبر، يخفوا أجسامهم، ويتوقفوا عن الاستحمام معا في العراء.
العرف المسمى بالخطأ إحتشام ليس له معيار واحد، ولا يمكن أن يكون له، لأنه معارض للطبيعة والعقل، وبالتالي فهو إصطناع يخضع لهوى أي شخص، الهوى المريض لأي شخص. وهكذا، في الهند السيدة الراقية تغطي وجهها وصدرها وتترك ساقيها عارية من الأوراك فما أسفل، في حين تغطي الأوروبية الراقية ساقيها وتكشف عن وجهها وثدييها. في الأراضي التي يقطنها البدائيون الابرياء، الاوروبية الراقية سرعان ما تتعود على العراء المحلي الصارخ البالغ أشده، وتتوقف مهانته عندها. كاونت وكونتيسا فرنسيان، على ثقافة عالية، وبدون علاقة تربطهما، تحطمت بهما سفينة وألقت بهما على جزيرة غير مأهولة في القرن الثامن عشر، أصبحوا عراة على عجل. وشعروا بالخجل أيضا--لمدة أسبوع. بعد ذلك، لم يضايقهم عرائهم، وسرعان ما توقفوا عن التفكير فيه.
انتم لم تروا أبدا أي شخص في ملابس. آه، حسنا، لم تخسروا شيئا.
لنمضي مع فضوليات المصحف. ستظنون طبعا أن التهديد بمعاقبة آدم وحواء على العصيان لم ينفذ، لأنهم لم يخلقوا أنفسهم، ولا طبيعتهم ولا تهورهم ولا نقاط ضعفهم، وبالتالي لم يصح إخضاعهم لأوامر أحد، وهم ليس مدينين لأحد بالمسؤولية عن أعمالهم. سيفاجئكم أن تعلموا أن التهديد تم تنفيذه. آدم وحواء نالوا عقابهم، وتلك الجريمة تجد لها مدافعين إلى يومنا هذا. الحكم بالإعدام تم تنفيذه.
وكما ترون، إن المسؤول الوحيد عن مخالفة الزوجين نجا؛ ولم ينج فحسب بل أصبح جلاد الأبرياء.
في بلدكم وبلدي يجب أن يكون لنا شرف السخر من هذا النوع من الأخلاق، ولكن ذلك سيكون قاسيا هنا. كثير من هؤلاء الناس يملكون قدرة العقل، ولكن أحدا لا يستخدمها في الأمور الدينية.
أفضل العقول ستقول لكم أنه عندما ينجب رجل طفلا فهو ملزم له خلقيا برقيق العناية، وبحمايته من الأذى، وبوقايته من الأمراض، وبالملبس والمأكل، وبتحمل شذوذه، وبألا يضع عليه يدا إلا بلطف ولصالحه، وألا يلحق به قسوة مستهترة في أي حال من الأحوال. معاملة الله لأبنائه الأرضيين، في كل يوم وكل ليلة، هي بالضبط عكس ذلك كله، ولكن تلك العقول الفاضلة تبرر هذه الجرائم بحرارة، تتغاضى عنها وتعذرها، وترفض بسخط أن تنظر إليها كجرائم على الإطلاق، عندما يرتكبها هو. بلدكم وبلدي مكان مثير، ولكن ليس هناك ما يساوي حتى نصف مثارة العقل البشري.
جيد جدا، نفى الله آدم وحواء من الجنة، وفي نهاية المطاف إغتالهم. كل ذلك بسبب عصيان أمر ليس له حق إصداره. لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، كما سترون. عنده شريعة لنفسه، وأخرى مختلفة تماما لأولاده. وهو يأمر أولاده بالتعامل بإنصاف -- برفق -- مع المخالفين، ويغفر لهم سبع وسبعين مرة؛ في حين أنه لا يتعامل بعدالة ولا برفق مع أحد، ولم يغفر لأول زوج من الأحداث الجاهلين حتى أول مخالفة صغيرة، ولم يقل: "إذهبوا فأنتم طلقاء هذه المرة، سأعطيكم فرصة أخرى."
على العكس! إختار أن يعاقب أبنائهم، عبر جميع العصور حتى نهاية الزمن، على مخالفة عابثة إرتكبها آخرون قبل أن يولدوا. ولا زال يعاقبهم. بأساليب معتدلة؟ كلا، بأساليب بشعة.
أنتم لن تفترضوا أن هذا النوع من الكائنات يتلقى الكثير من الإشادة. أزيحوا الوهم عنكم: العالم يدعوه بأسماء العادل، الصالح، الخير، الرحيم، الغفور، الصادق، المحب، ومصدر كل الأخلاق. هذه التهكمات تقال يوميا، في كل أنحاء العالم. ولكن ليس كتهكمات إرادية. لا، إنها تطلق بجدية: تقال دون إبتسامة.
----------------------------------------
* ملاحظة: ضوء أقرب نجم (61 سيغني) يستغرق ثلاث سنوات ونصف السنة ليصل إلى الأرض، مسرعا بمعدل 186 ألف ميل في الثانية. السماك الرامح كان مشرقا 200 سنة قبل أن تصبح رؤيته ممكنة من الأرض. النجوم الأبعد أصبحت واضحة للعيان تدريجيا بعد آلاف وآلاف السنين. -- المحرر [م. ت.]
** ملاحظات المترجم تضاف {بين معكوفين} وباللون الأحمر.
واحد من أهم أديانه يسمى المسيحية. سيثير إهتمامكم وصفه المقتضب. يتبين بالتفصيل في كتاب يحوي مليونى كلمة، يسمى العهد القديم والعهد الجديد. كما أن له إسم آخر -- كلام الله. فالمسيحي يعتقد أن كل كلمة فيه أملاها الله--ذلك الذي أتحدث عنه.
إنه مليء بالإثارة. فيه شعر نبيل؛ وبعض الخرافات الذكية؛ وبعض التاريخ الملطخ بالدم؛ وبعض الأخلاق الحميدة؛ وثروة من الفاحشة؛ وما يفوق الألف أكذوبة.
هذا المصحف بني أساسا من شظايا كتب أقدم، عاشت يومها وتداعت إلى الخراب. وهكذا فهو يفتقد الأصالة بشكل ملفت، بالضرورة. أهم وأعجب ثلاثة أو أربعة من أحداثه وقعت جميعها في كتب سابقة؛ وأفضل المباديء وقواعد السلوك التي فيه جاءت ايضا من هذه الكتب؛ ولا يوجد به سوى شيئين جديدين: جهنم واحدة، وتلك الجنة المفردة التي أخبرتكم عنها.
ماذا سنفعل؟ إذا إعتقدنا، مع هؤلاء الناس، أن إلهم إخترع هذه الاشياء القاسية، سنفتري عليه؛ وإذا إعتقدنا أن هؤلاء الناس إخترعوها بأنفسهم، سنفتري عليهم. إنها معضلة غير سارة في كلتا الحالتين، لأنه لم يلحقنا أي ضرر من كلا الجانبين.
من أجل السكينة، فلننحاز إلى جهة. فلنوحد قوانا مع الناس ونضع كل هذا العبء الفظ عليه-- الجنة وجهنم، والمصحف والجميع. قد لا يبد ذلك صائبا، ولا عادلا؛ ولكن عندما تضعون تلك الجنة في الإعتبار، وكيف أنها مشحونة بكل ما يثير الإشمئزاز لدى الإنسان، كيف نصدق أن إنسانا اخترعها؟ وعندما آتي على خبر جهنم، ستكون الوصمة أكبر وأكبر، وعلى الأرجح ستقولون كلا، الإنسان لا يمكن أن يأتي بذلك المكان، سواء لنفسه أو لأحد كان؛ أنه ببساطة لا يستطيع ذلك.
ذلك المصحف البريء يتحدث عن الخلق. خلق ماذا--الكون؟ نعم الكون. في ستة أيام!
الله فعل ذلك. ولم يطلق عليه إسم الكون -- ذلك الإسم حديث. كل إهتمامه إنصب على هذا العالم. شيده في خمسة أيام -- وبعد ذلك؟ استغرق يوما واحدا فقط لصنع عشرين مليون شمس وثمانين مليون كوكب!
وماذا كان الغرض منها-- وفقا لهذه الفكرة؟ لتقدم الضوء لهذا العويلم اللعبة. هذا كان كل غرضه؛ لم يكن له غيره. واحدة من العشرين مليون شمس (أصغر واحدة) لتضيئه في النهار، والباقي لمساعدة واحدة من أقمار الكون التي لا تحصى لتعدل ظلام لياليه.
يتضح تماما إعتقاده بأن سماءه البكر بذرت بالماس وتلك الجموع من النجوم المتلألئة لحظة غوص شمس أول أيامه تحت الأفق؛ بينما في الواقع، ولا نجم واحد غمز في ذلك القبو الأسود حتى ثلاث سنوات ونصف بعد أن كانت الصناعات الهائلة قد إكتملت في ذلك الأسبوع الذي لا ينسى.[*] ثم بدا نجم واحد، وحيد على إنفراد، وبدأ يرمش. بعد ذلك بثلاث سنوات ظهر نجم آخر. ورمش الإثنان معا لأكثر من أربع سنوات قبل ظهور ثالثهم. في نهاية المائة سنة الأولى لم يكن هناك خمسة وعشرون نجما يتلألأ في الخلاءات الشاسعة لتلك السموات الكئيبة. في نهاية الألف سنة لم يكن هناك من النجوم المرئية ما يكفي لتقديم عرض. وفي نهاية مليون سنة مجرد نصف طائفة الوقت الحاضر كانت قد أرسلت أضواءها على مدى الحدود التيليسكوبية، واستغرقت البقية مليون سنة أخرى لتحذو حذوها، كما تقول العبارة الركيكة. وبما أنه لا يوجد في ذلك الوقت أي تيليسكوب، لم يُشهد حلولها.
لمدة ثلاث مائة سنة، الآن، عرف عالم الفلك المسيحي أن إلهه لم يخلق النجوم في تلك الأيام الستة الهائلة؛ ولكن الفلكي المسيحي لا يتوسع بتلك الجزئية. ولا الكاهن.
في كتابه، الله بليغ في شكره لأعماله العظيمة، ويدعوها بأكبر الأسماء التي يمكن أن يجدها--مما يشير إلى أنه يملك إعجابا شديدا وعادلا بالضخامة؛ ولكنه خلق هذه الملايين من الشموس المذهلة لتضيء هذا الجرم الضئيل، بدلا من تعيين شمس هذا الجرم الصغيرة لترقص حاضرة عليهم. يذكر السماك الرامح {نجم يسمى أيضا حارس السماء}** في كتابه--أنتم تذكرون السماك الرامح؛ ذهبنا إلى هناك مرة. هو واحد من مصابيح ليل الأرض! -- تلك الكرة العملاقة، حجمها أكبر من شمس الأرض بخمسين ألف مرة، وتقارن بها كمقارنة البطيخة بالكاثدرائية.
ومع ذلك، لا تزال مدرسة يوم الأحد تعلم الطفل أن السماك الرامح انشيء ليساعد على إضاءة هذه الأرض، وينمو الطفل وطالما يظل مصدقا بعد أن يكتشف أن الإحتمالات تتعارض مع كونه كذلك.
حسب الكتاب وخدمه، الكون عمره ستة آلاف سنة فقط. لم يحدث إلا في المائة سنة الماضية أن عقولا مجتهدة مستفسرة وجدت أن عمره أقرب إلى مائة مليون سنة.
خلال الستة أيام، الله خلق الإنسان وسائر الحيوانات.
خلق رجلا وامرأة وأسكنهما حديقة سارة، مع سائر المخلوقات. عاشوا جميعا في وئام وقناعة وشباب مزدهر لبعض الوقت؛ ثم جائت المشاكل. كان الله قد حذر الرجل والمرأة أن لا يأكلا من ثمرة شجرة معينة. وأضاف ملاحظة من أغرب ما يكون: قال أنهما إذا أكلا منها ستكون موتهما مؤكدة. ملاحظة غريبة والسبب أنه طالما لم يسبق لهم أن يروا عينة من الموت، فلا يمكن أن يعرفوا ما كان يقصده. لا هو ولا أي إله آخر كان قادرا أن يجعل هؤلاء الاطفال الجهلة يفهمون المعنى المقصود، دون تقديم عينة. الكلمة المجردة لايمكن أن تعني لهم شيئا أكثر مما تعنيه لرضيع عمره أيام.
وحالا كان ثعبان يبحث عنهم سرا، وجاءهم يمشي مستقيما، مثلما كانت عادة الثعابين في تلك الأيام. قال الثعبان أن الثمرة المحرمة يمكن أن تملأ عقولهم الشاغرة بالمعرفة. فأكلوها، وكان ذلك أمرا طبيعيا، فالإنسان خلق متلهفا للمعرفة؛ بينما الكاهن، مثل الله، الذي يمثله ويقلده، جعل من إختصاصه منذ البدء أن يحول بينه وبين معرفة أي شيء مفيد.
آدم وحواء أكلا الثمرة المحرمة، وعلى الفور تدفق في رؤوسهم القاتمة ضوء عظيم. إنهم إكتسبوا المعرفة. أي معرفة -- المعرفة المفيدة؟ كلا -- فقط معرفة أن هناك شيء ما كالخير، وشيء ما كالشر، وكيف يعملوا الشر. لم يستطيعوا أن يفعلوا ذلك من قبل. لذا كل أعمالهم حتى هذا الوقت كانت دون وصمة، دون لوم، دون مخالفة.
أما الآن يمكن أن يعملوا الشر-- ويعانوا من جراء ذلك؛ الآن حصلوا على ما تسميه الكنيسة مِلك لا يقدر بثمن، الحاسة الأخلاقية؛ تلك الحاسة التي تميز الإنسان عن الحيوان، وتضعه في أعلى مرتبة. بدلا من أدنى الوحوش -- أينما يفترض المرء أن يكون مكانه المناسب، لأنه دائما قذر الفكر ومذنب، والحيوان دائما نظيف الفكر وبريء. وذلك الترتيب شبيه بجعل ساعة لابد لها أن تخطأ أثمن من ساعة لايمكن أن تخطأ.
الكنيسة لا تزال تثمن العقل الأخلاقي كأنبل ما يملكه الإنسان، رغم أن الكنيسة تعلم أن الله رأى أنه سيئ بتميز وفعل كل ما باستطاعته وبطريقته المرتبكة ليمنع (أطفال الحديقة) السعداء من الحصول عليه.
جيد جدا، آدم وحواء الآن يعرفوا ما هو الشر، وكيف يعملوه. انهم يعرفون كيفية القيام بمختلف انواع السيئات، وبينها واحدة رئيسية-- الواحدة الرئيسية التي شغل الله بها فكره. وهي فن ولغز الجماع. بالنسبة لهم كان اكتشافا رائعا، وتوقفوا عن التسكع، وصوبوا نحوه كامل إنتباهم، أولئك الشباب المبتهجون المساكين!
في خضم إحدى هذه الإحتفالات سمعوا الله يمشي بين الشجيرات، كما كانت عادته بعد الظهر، وصعقهم الخوف. لماذا؟ لأنهم كانوا عراة. لم يعرفوا ذلك من قبل. لم يتضايقوا من قبل، ولا الله.
في تلك اللحظة التي لا تنسى ولد التكبر؛ ومن الناس من عظم شأنه منذ ذلك الحين، رغم أن تفسيره من المؤكد أن يحيرهم.
آدم وحواء دخلوا إلى العالم عراة وبلا حياء-- عراة بفكر نقي؛ ولا أحد من سلالتهم دخله يوما بخلاف ذلك. الجميع دخلوه عراة بلا حياء، نظيفة عقولهم. دخلوه بتواضع. كان عليهم أن يكتسبوا التكبر والعقل المتسخ؛ ولم تكن هناك طريقة اخرى للحصول عليه. أول واجبات الأم المسيحية أن توسخ عقل طفلها، و هي لا تهمل هذا الواجب. ويكبر فتاها ليكون مبشرا، ويذهب إلى البدائيين الأبرياء والمتحضرين اليابانيين، ويوسخ عقولهم. عندئذ يعتمدوا التكبر، يخفوا أجسامهم، ويتوقفوا عن الاستحمام معا في العراء.
العرف المسمى بالخطأ إحتشام ليس له معيار واحد، ولا يمكن أن يكون له، لأنه معارض للطبيعة والعقل، وبالتالي فهو إصطناع يخضع لهوى أي شخص، الهوى المريض لأي شخص. وهكذا، في الهند السيدة الراقية تغطي وجهها وصدرها وتترك ساقيها عارية من الأوراك فما أسفل، في حين تغطي الأوروبية الراقية ساقيها وتكشف عن وجهها وثدييها. في الأراضي التي يقطنها البدائيون الابرياء، الاوروبية الراقية سرعان ما تتعود على العراء المحلي الصارخ البالغ أشده، وتتوقف مهانته عندها. كاونت وكونتيسا فرنسيان، على ثقافة عالية، وبدون علاقة تربطهما، تحطمت بهما سفينة وألقت بهما على جزيرة غير مأهولة في القرن الثامن عشر، أصبحوا عراة على عجل. وشعروا بالخجل أيضا--لمدة أسبوع. بعد ذلك، لم يضايقهم عرائهم، وسرعان ما توقفوا عن التفكير فيه.
انتم لم تروا أبدا أي شخص في ملابس. آه، حسنا، لم تخسروا شيئا.
لنمضي مع فضوليات المصحف. ستظنون طبعا أن التهديد بمعاقبة آدم وحواء على العصيان لم ينفذ، لأنهم لم يخلقوا أنفسهم، ولا طبيعتهم ولا تهورهم ولا نقاط ضعفهم، وبالتالي لم يصح إخضاعهم لأوامر أحد، وهم ليس مدينين لأحد بالمسؤولية عن أعمالهم. سيفاجئكم أن تعلموا أن التهديد تم تنفيذه. آدم وحواء نالوا عقابهم، وتلك الجريمة تجد لها مدافعين إلى يومنا هذا. الحكم بالإعدام تم تنفيذه.
وكما ترون، إن المسؤول الوحيد عن مخالفة الزوجين نجا؛ ولم ينج فحسب بل أصبح جلاد الأبرياء.
في بلدكم وبلدي يجب أن يكون لنا شرف السخر من هذا النوع من الأخلاق، ولكن ذلك سيكون قاسيا هنا. كثير من هؤلاء الناس يملكون قدرة العقل، ولكن أحدا لا يستخدمها في الأمور الدينية.
أفضل العقول ستقول لكم أنه عندما ينجب رجل طفلا فهو ملزم له خلقيا برقيق العناية، وبحمايته من الأذى، وبوقايته من الأمراض، وبالملبس والمأكل، وبتحمل شذوذه، وبألا يضع عليه يدا إلا بلطف ولصالحه، وألا يلحق به قسوة مستهترة في أي حال من الأحوال. معاملة الله لأبنائه الأرضيين، في كل يوم وكل ليلة، هي بالضبط عكس ذلك كله، ولكن تلك العقول الفاضلة تبرر هذه الجرائم بحرارة، تتغاضى عنها وتعذرها، وترفض بسخط أن تنظر إليها كجرائم على الإطلاق، عندما يرتكبها هو. بلدكم وبلدي مكان مثير، ولكن ليس هناك ما يساوي حتى نصف مثارة العقل البشري.
جيد جدا، نفى الله آدم وحواء من الجنة، وفي نهاية المطاف إغتالهم. كل ذلك بسبب عصيان أمر ليس له حق إصداره. لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، كما سترون. عنده شريعة لنفسه، وأخرى مختلفة تماما لأولاده. وهو يأمر أولاده بالتعامل بإنصاف -- برفق -- مع المخالفين، ويغفر لهم سبع وسبعين مرة؛ في حين أنه لا يتعامل بعدالة ولا برفق مع أحد، ولم يغفر لأول زوج من الأحداث الجاهلين حتى أول مخالفة صغيرة، ولم يقل: "إذهبوا فأنتم طلقاء هذه المرة، سأعطيكم فرصة أخرى."
على العكس! إختار أن يعاقب أبنائهم، عبر جميع العصور حتى نهاية الزمن، على مخالفة عابثة إرتكبها آخرون قبل أن يولدوا. ولا زال يعاقبهم. بأساليب معتدلة؟ كلا، بأساليب بشعة.
أنتم لن تفترضوا أن هذا النوع من الكائنات يتلقى الكثير من الإشادة. أزيحوا الوهم عنكم: العالم يدعوه بأسماء العادل، الصالح، الخير، الرحيم، الغفور، الصادق، المحب، ومصدر كل الأخلاق. هذه التهكمات تقال يوميا، في كل أنحاء العالم. ولكن ليس كتهكمات إرادية. لا، إنها تطلق بجدية: تقال دون إبتسامة.
----------------------------------------
* ملاحظة: ضوء أقرب نجم (61 سيغني) يستغرق ثلاث سنوات ونصف السنة ليصل إلى الأرض، مسرعا بمعدل 186 ألف ميل في الثانية. السماك الرامح كان مشرقا 200 سنة قبل أن تصبح رؤيته ممكنة من الأرض. النجوم الأبعد أصبحت واضحة للعيان تدريجيا بعد آلاف وآلاف السنين. -- المحرر [م. ت.]
** ملاحظات المترجم تضاف {بين معكوفين} وباللون الأحمر.
التسميات: ترجمة, رسائل من الأرض
0 تعليقات:
إرسال تعليق
عودة إلى المدخل