بنغازي: عاصمة الثقافة والمعارضة أم مقبرة إستعراضية؟
لاحظنا منذ أشهر تزايد الضجيج في براريك الغضب حول ما يسمى الجهوية تارة والنعرة القبلية تارة أخرى، ويبدو أن معظم النقاش يدور في غرف الدروشة، أو خلوات (البالتولك) التي يقطنها الدراويش، ثم تتبع الردود بنصوص معلقة على جدران البراريك. طبعا، إذا نظرنا إلى تفاصيل هذه الهيدقة سنصاب بالدوار وزهاق الكبد، ولن نذهب إلى ذلك. ولكن، لا أظن أن هناك إختلاف في أن معظم االتهريجات تأتي من مقام (يانا علي يابريقتي) وعلى لسان النادبين المعهودين مثل الهيدوق جاب الله حسن وشركاءه، بينما تأتي معظم الردود بشعارات (وحدة الوطن) و(كلنا في الهوا سوا)، حيث أننا لانجد إلا نادرا من يدعي أفضلية طرابلس أو تميزها في هذا الشأن أو ذاك. وهذا أمر طبيعي لأن طرابلس لاتعاني من الدونية على الصعيد الداخلي.
إلى جانب التهريجات العارية، هناك نماذج أخرى من عقدة الدونية، ربما تكون أقل صراحة ووفرة، تظهر بلباس الثقافة والتاريخ، وتتمثل بوضوح في عبارة (بنغازي عاصمة الثقافة) التي يروجها أمثال السيد فرج نجم، والمعروف بالدكتور المؤرخ في براريك الغضب، والسيد عيسى عبد القيوم، أحد هواة الصحافة في الخارج، والهيدوق عبد القادر الدرسي، عضو اللجان الثورية وممثل ما يسمى بالصحافة الإصلاحية في الداخل، وغيرهم.
وقد سبق أن أشرنا إلى أن فكرة (العاصمة الثقافية) هي وليدة كيان خرافي يسمى (ليبيا الحديثة) إستنادا إلى التسمية التي إخترعها السيد مجيد خدوري ليعنون بها كتابه الشهير. ولكن الكتاب صدر باللغة الإنجليزية واستهدف قراء المجتمع الغربي أينما كان إسم (ليبيا) مرتبطا بمعناه التاريخي القديم الوارد في كتب الإغريق ومن تلاهم. ومن هذه الخلفية تأتي كلمة (الحديثة) مقاربة لمعنى (المعاصرة) ولا يصح ربطها بمعاني الحداثة كما لايصح ربطها بالعهد السنوسي تحديدا أو مايسمى عصر مابعد الإستعمار\الإستقلال. ولكن الكثيرين من الكتاب وغيرهم من الليبيين يظنون أن ما يسمى اليوم ليبيا لم يكن يوما تحت سيادة محلية موحدة قبل تأسيس المملكة السنوسية. وهذه مغالطة شائعة تتجاهل أن إيطاليا هي التي أخرجت إسم ليبيا لتشتيت الثقل السياسي لطرابلس، وهي أيضا مغالطة تدعمها عنصرية عروبية لاتعترف بوطنية الدولة الكرغلية التي سادت الإقليم الجغرافي المعروف بليبيا الآن وبطرابلس آنذاك، والتي أثبتت سيادتها عليه في العديد من النواحي وبشتى الأشكال، لعل من أهمها إجلاء قبائل من برقة إلى مصر، واستيطان الكراغلة في المناطق التي حرروها ثم عمروها من بنغازي إلى درنة. وقد سبقت سيادة الدولة الكرغلية بقرن من الزمان وصول السنوسيين إلى تراب ليبيا، ناهيك عن وصولهم إلى سدة الحكم. المهم أن خرافة ليبيا الحديثة هي الأرضية التي يطرحها العديدون لدعم ثنائية مزيفة ومقابلة كاذبة بين ما يسمى برقة وما يسمى طرابلس، والتي كان من أهم شروط تسويقها ترقية شأن مدينة بنغازي نسبيا، فجلبوا لها قبر المختار وأسسوا بها الجامعة الليبية، وبعد فشل فكرة (العاصمة الثانية) إخترعوا لها إسم (العاصمة الثقافية) وما هي بعاصمة، لاثقافية ولا إقتصادية ولا حتى رعوية.
ما جرنا إلى كتابة هذه المقالة هو ما لاحظناه في البراريك من دعوات إلى النظر بموضوعية ودراسة التباين الطرابلسي-البرقاوي والطرابلسي-البنغازي، ولعل أبرز هذه الدعوات تلك التي ركزت على جانب المعارضة السياسية، وأتت من السيد يوسف المجريسي، حيث قال:
...
يجب ألا ننكر أن هناك فجوة كبيرة من الثقة بين أهل برقة وأهل طرابلس، فالعلاقات لم يسُدْها أبداً التآلف والمودة المعهودين بين أبناء الوطن الواحد منذ الغزو الإيطالي، وربما قبل ذلك، رغم أن العديد من عائلات برقة تنحدر أصولها من غرب ليبيا. وما نظهره على الملأ شيء، وما يجري خلف الكواليس شيء آخر، وربما كانت هذه الازداوجية سبباً في فرقتنا ومآسينا. فهذا النفاق الاجتماعي الذي نحياه في الداخل والخارج هو الذي حال بيننا وبين أن نسلط الضوء على الفجوة العصبية التي تفصل شرق البلاد وغربها حتى نتدارسها معاً بروح الصدق والصراحة وتحت قبة واحدة هي قبة الولاء لوطن نحن جميعاً أبناؤه، أرضاً ومصيراً، حاضراً ومستقبلاً.فلا مفر من أن نقر ونعترف أن أهل طرابلس لا يشكلون إلا نسبة قلية جداً من رجال المعارضة، مقارنة بعدد سكانها، على عكس بقية مناطق ليبيا، فمعارضة الطرابلسيين للقذافي اقتصرت على قلة مشكورة من المثقفين وأصحاب الاتجاه الإسلامي
...
هذه ظاهرة موجودة، ونكذب على أنفسنا إذا أنكرناها، ولابد من مناقشة أسبابها لمعرفة الخلل الرهيب في تركيب المعارضة الوطنية في المنفى. لماذا يعزف الطرابلسيون، إلا من رحم ربي، عن معارضة حكم القذافي؟
لا أظن أن هناك أي لبس أن (طرابلس) فيما ساقه الكاتب تعني (طرابلس الكبرى) أو ما كان يعرف بولاية طرابلس حسب تعريف العهد السنوسي. ولكن الكاتب تراجع في سياق لاحق بأنه لم يقصد ذلك وإنما قصد مدينة طرابلس تحديدا، ثم أضاف:
أنا لا اتهم أحداً بأي شيء، ولست ابتغي من كلامي هذا إثارة النعرات، أو النيل من إخوتنا الطرابلسيين، وإنما أعرض الحقائق كما هي، وأكون ممتناً لأي شرح لهذه الظاهرة سواء جاء من طرابلس أو من بنغازي أو من واق الواق.
جميل جدا! وأنا بصفتي عميد بلدية الواك واك، أقبل دعوة السيد المجريسي في إطار الحوار الموضوعي والمبني على حقائق إحصائية، في محاولة لتسليط المزيد من الضوء حول مسألة إنتشار وتنوع الثقافة والمعارضة السياسية على الوسعاية الليبية.
ولكي نهيء الساحة تحت قبة الوطن الواحد، ومجاراة لما أورده السيد المجريسي من أشعار الهجاء الجغرافي، سأستذكر هنا حكاية طريفة قد تساهم في ترطيب الأجواء و تأطير الإختلاف داخل دائرة الإتحاد.
تعود بنا الذاكرة إلى صيف من أصياف السمر، إلى عرس جمع شاب بنغازي من أصول مصراتية بعروس مصراتية مقيمة في مصراتة. ومن المعلوم عن عادات الأعراس الليبية أن عائلة العريس توفد ممثلات ليصاحبن العروس إلى بيتها الجديد، وأن الفرقة تشتبك مع الأصهار الجدد في مناظرات غنائية يقترن فيها الفخر بالهجاء في سياق إتحادي وتحت مظلة فنية، وتسمى تلك القذائف المتبادلة (شتاوة) بلغة مصراتة وبنغازي على السواء. فما أن وصلت البنغازيات (المصراتيات أصلا) إلى بيت العروس وشرعن في إنزال العلايق حتى إستقبلتهن المصراتيات المحليات بشتاوة إفتتاحية طاعنة تقول:
تره زيدوها الشربة مي ... بقر بنغازي هاهو جي
ولكن بعد وصلة زلزالية قصيرة، تقدمت إحدى حاملات الكردان (وحدة حرشة وملسنة، تسمع في وإلا لا، تخط عليها الوقيد يشعل!) وصاحت في ردائها الأبتر:
بقر بنغازي جاب عجول ... يشيلن في الزول المزطول
كيخ كيخ كيخ!
في هذا الإطار نطرح المسألة على وجه التحديد: بالنظر إلى ما تنشره براريك الغضب، يبدو أن هناك نسبة كبيرة من البنغازيين في صفوف المعارضة الليبية، كما يبدو أيضا أن نصيب البنغازيين من النتاج الثقافي الليبي أكبر من نصيبهم في تعداد السكان في ليبيا. هل هذا صحيح، أولا، وما هو السبب؟
الإجابة لن تكون مباشرة، بل سنضعها على شكل سؤال مشابه ومدعم بقرائن إحصائية مستقلة. والموضوع الذي سنستيعره سبق أن تطرقنا إلى جانب آخر من جوانبه في مقالة بعنوان (ولع التعازي، تقديس أم تدنيس؟) حيث أشرنا إلى تفشي عادة التعازي الإستعراضية بين الليبيين وأوردنا بعض الأمثلة. واليوم نعود إلى سوق التعازي لنلقي نظرة على توزيعها النسبي بين مختلف المدن الليبية.
لقد قمت بإحصاء جميع التعازي التي نشرت في فندق حامورابي للتواليف (ليبيا وطننا) في الفترة ما بين مارس وأوائل أغسطس من هذا العام، وصنفت الوفيات حسبما ورد في التعازي عن محل إنتماء أو إقامة المتوفي، ثم وضعت النتائج في الشكل البياني التالي.
ماذا تقول الأرقام؟
تقول أن نصيب بنغازي أكبر بكثير من أي مدينة أخرى. لاحظ أن عدد الوفيات في بنغازي يساوي وفيات المدن الأخرى مجتمعة، ويفوق نصيب أي مدينة على حدة بأضعاف مضاعفة، حتى طرابلس التي يفوق تعداد سكانها ضعف سكان بنغازي.
السؤال: هل يعني هذا أن معدل الوفاة في بنغازي يفوق نظيره في طرابلس بأضعاف؟ مشكوك.
وهل يعني أن أهل طرابلس لا يقومون بواجب العزاء أو أنهم لايواسون أحبابهم ولا يكرمون موتاهم؟ في الشك يا.
وهل يصح بناء على هذه الحقائق أن نعلن بنغازي عاصمة الموت في ليبيا؟ ياودي هئه.
وهل يمكن أن نقبل مثل هذه الأرقام كدليل أو مؤشر على تفاوت معدلات الأضطهاد في مختلف مدن ومناطق ليبيا؟ يمكن الغزال يحك!
هناك تفاصيل عديدة جديرة بالدراسة والمقارنة، وليس هناك مجال لذكرها جميعا هنا. هناك مثلا ظاهرة التكتلات العزائية المعنية بتقديم التعازي من مجموعات متناسقة سياسيا يمكن أن نسميها أحزاب عزائية. وهناك أيضا العديد من التعازي التي لم تحدد إنتماء المتوفي، أو توقفت عند كونه ليبيا، من بينها مثلا التعازي التي نشرت بمناسبة وفاة عبد الحميد البكوش والتي لم يرد فيها--رغم كثرتها--أي نسبة قبلية أو جغرافية سوى نسبته إلى ليبيا. أنصح القاريء أن يقارن التعازي المقدمة في وفاة البكوش بما سبقها في وفاة مازق، وهناك ستجد الفروق الشاسعة، رغم أن البكوش إستمر في عمله السياسي بعد إنقلاب القذافي، بخلاف السيد مازق الذي اعتزل السياسة ولم يكن له أي حضور على المستوى العام منذ عشرات السنين.
إذا ماذا تعني هذه الأرقام، ومن يستطيع أن يفسرها لنا منطقيا، بمنطق بنغازي، طرابلس أو حتى بمنطق الواك علينا واك؟ وما صلة التعازي بالمعارضة والثقافة؟
أنا أقول أن الرابط بينها جميعا هي الإستعراضية، بل إستعراضية النكد والمآسي على وجه الخصوص. إن ما يسميه البعض معارضة هو في الحقيقة إستعراضية نكدية على مسرح سياسي، والأمر مطابق في الجانب الثقافي. ولا يفوتنا أن نقول أن هذه الإستعراضية لها مفاسد جانبية حيث أنها تشجع النيابية، أو قل أنها تسد الطريق أمام المعارضة العقلانية والثقافة العميقة الغير شعارية. وفي هذا الشأن هناك توازي بين العمل السياسي وما يحدث في المآتم، فمن المعلوم أن مآتم بنغازي أكثر إستعراضية، وأن إستعراضية المآتم بشكل عام يتولاها عادة قلة من الأفراد نيابة عن باقي الحضور.
نعم، بكل بساطة، نقول للسيد المجريسي أن المعارضون القدامى أصبحوا مثل الممثلين المخضرمين، أو شيوخ الحضاري، الذين يعرّفون عملهم بشكل لايقبل ولا يشجع الدماء الجديدة على الإنخراط، بل يكبلهم في قوالب تقليدية لا تترك مجالا للإبداع والإختلاف، وكل من يريد أن يتأكد من ذلك فما عليه إلا مقارنة التعازي ويسأل أين وكيف يكون هناك أي جديد.
أقول قولي هذا، وأتمنى لي ولكم ما اشتهيتم من الهبر والسليان.
التسميات: احصائيات, ثقافة, ليبيا وطننا
0 تعليقات:
إرسال تعليق
عودة إلى المدخل