ديوان‮ ‬‮ ‬‮رفــ الحصانة ــع ‬

2007-08-20

رسائل من الأرض-٢

"إذهب إلى الجنة من أجل الطقس، وإلى جهنم من أجل الصّحبة."


هذه ترجمة الرسالة الثانية من (رسائل من الأرض) للكاتب الأمريكي (مارك توين). يمكنكم الإطلاع على ترجمة الأجزاء السابقة هنا. وللإطلاع على النص الأصلي بالإنجليزية، نحيلكم إلى الموقع التالي.


Letters From The Earth
by Mark Twain
© Harper & Row, 1962, 1974

/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_/_


الرسالة 2

"لم أقل لكم شيئا ليس صحيحا عن الإنسان". ولابد من عفوكم إذا أنا كررت هذه الملاحظة بين الحين والآخر في هذه الرسائل؛ أريدكم أن تأخذوا ما أقوله لكم بجدية، وأنا أشعر أنني لو كنت في مكانكم وأنتم في مكاني، لكنت في حاجة لهذا التذكير من وقت إلى آخر، حفاظا على تصديقي من الوهن.

فما من شيء عن الإنسان إلا يكون غريبا على الخالدين. لا ينظر لأي شيء بمثل نظرتنا، شعوره بالتناسب يختلف تماما عن شعورنا، وإحساسه بالقيم يتباين مع إحساسنا إلى درجة أنه، وبكل ما نملك من قدرات عقلية كبيرة، لا يحتمل حتى لأكثرنا موهبة أن يكون أبدا قادرا على فهمه.

فعلى سبيل المثال، خذ هذه العينه: لقد تخيل جنة، وترك خارجها تماما ذروة مسراته جميعا، النشوة التي تتواجد أولا وقبل كل شيء في قلب كل فرد من جنسه--وفي قلوبنا-- الجماع!

وكأن شخصا تائها في صحراء لافحة يقول له منقذه أن يختار من الأشياء كل ما يتمناه إلا واحدا، فيترك الماء!

جنته شبيهة به: غريبة، مثيرة للإهتمام، مدهشة، قبيحة. أقول لكم، ليس لها سمة واحدة من السمات التي يقدسها في الواقع. فهي تتألف -- حرفيا وكليا -- من ملاه لا يعيرها أي إهتمام، هنا في الارض، ولكنه متأكد تماما أنه سيحبها في الجنة. أليس هذا غريبا؟ أليس مثيرا؟ لا تظنون أني مبالغا، لأنني لست كذلك. سأوافيكم بالتفاصيل.

معظم الناس لا يغنون، معظم الناس لا يستطيعوا أن يغنوا، ومعظم الناس لا يمكثوا عندما يغني الآخرون إذا إستمر الغناء أكثر من ساعتين. لاحظوا ذلك.

حوالي إثنين في المئة من بني الإنسان يستطيعوا أن يعزفوا على آلة موسيقية، ودون الأربعة في المئة لديهم أي رغبة في التعلم. سجلوا ذلك.

كثير من الناس يصلون، وليس كثير منهم من يرغب في ذلك. قليل من يطيل الصلاة، والآخرون يختصروا الطريق.

المراودون للكنيسة أكثر ممن يرغبون الذهاب.

عند كل تسعة واربعين من خمسين إنسان يوم (السبت) (يوم التعبد) ملل كئيب، كئيب.

من جمع المصلين في الكنيسة يوم الأحد، الثلثان يصابوا بالملل في منتصف الصلاة، والباقي قبل نهايتها.

أسعد لحظة بالنسبة لهم هي عندما يرفع الإمام يديه للدعاء. عندها يمكنك سماع حفيف الإستراحة الخافت يجتاح البيت، وتدرك شاكرا أنه بليغ.

جميع الأمم تحتقر سائر الأمم.

جميع الأمم تكره سائر الأمم.

جميع أمم البيض يحتقرون جميع أمم الملونين، بأي طيف كان، ويقهرونهم ما استطاعوا.

الإنسان الأبيض لا يرافق "الزنوج" (العبيد) ولا يتزوج منهم.

لا يسمحون لهم بدخول مدارسهم وكنائسهم.

العالم كله يكره اليهودي، ولا يتحملوه إلا إذا كان ثريا.

أطلب منكم أن تلاحظوا جميع تلك التفاصيل.

مزيدا، كل شخص عاقل يمقت الضجيج.

جميع الناس، العاقلين أو المجانين، يرغبون في التنوع في حياتهم. الرتابة تنهكهم بسرعة.

كل إنسان، وفقا للمعدات العقلية التي وقعت في نصيبه، يعمل عقله دائما، دونما توقف، وهذا النشاط يشكل جزءا واسعا وجوهريا في حياته. أدنى عقل، مثل أسمى عقل، يملك مهارة من نوع ما ويتلذذ بتجريبها، بإثباتها وإتقانها. العابث المتفوق على أقرانه في اللعب لا يقل حرصا ولا تحمسا في ممارساته عن النحات، أو الرسام، أو عازف البيانو، أو عالم الرياضيات، أو غيرهم. لا يمكن أن يكون أحدهم سعيدا إذا وضعت موهبته تحت التحريم.

إذن، الأن لديكم الحقائق. تعلمون ما يتمتع به الجنس البشري وما لا يتمتع به. لقد إخترع جنة من رأسه، كل ذلك بمفرده: خمنوا ما تكون عليه! في خمس عشرة مئة أبد لن تسطيعوا ذلك! أقوى عقل معروف لكم ولي لن يستطيع ذلك في خمسين مليون دهر! حسنا، أنا سأخبركم عنها.

1 - أولا وقبل كل شيء، أستذكر لإنتباهكم الحقيقة الإستثنائية التي بدأت بها، ألا وهي أن الإنسان، مثل الخالدين، طبعا يضع الجماع إلى حد بعيد فوق كل متعة -- ورغم ذلك تركه خارج جنته! مجرد خاطرة الجماع تثيره، والفرصة تجعله متوحشا؛ في هذه الحالة يجازف بحياته وسمعته وكل شيء--حتى جنته الشاذة ذاتها--لينتهز الفرصة ويمتطيها إلى الذروة الساحقة. من الشباب إلى متوسط العمر، الرجال والنساء كافة يعشقون الجماع فوق كل المتع الأخرى مجتمعة، إلا أنه فعلا كما قلت: ليس في جنتهم؛ الصلاة تحل محله.

إنهم يعشقونه بهذا القدر؛ ولكنه، مثل كل ما يسمونها "نِعم"، شيء سيء. في أفضل وأطول ما يكون، هو فعل قصير، أقصر من الخيال -- أعني خيال الخالدين. وفي مسألة التكرار الإنسان محدود-- إلى أبعد من مفهوم الخالدين. نحن الذين نواصل الفعل بأسمى نشواته بدون إنقطاع وبدون إنسحاب لعدة قرون، لن نكون أبدا قادرين على ما يكفي من الفهم أو الإشفاق لحالة الفقر الرهيب عند هؤلاء الناس فيما يخص تلك الهبة الغنية، والتي عندما تُمتلك مثلما نملكها تجعل جميع الممتلكات الأخرى تافهة ولا تستحق عناء الجرد.

2 - في جنة الإنسان الكل يغني! الإنسان الذي لم يغني على الأرض يغني هناك؛ الإنسان الذي لم يكن قادرا أن يغني على الأرض يصبح قادرا على ذلك هناك. الغناء الشامل ليس عرضيا، ولا تعفي منه فترات هدوء؛ يستمر، طوال اليوم، وكل يوم، أثناء مدة إثنتي عشرة ساعة. ويبقى الجميع؛ بينما في الأرض يكون المكان خاليا في غضون ساعتين. الغناء من نوع الترانيم فقط. كلا، إنها ترنيمة واحدة بمفردها. الكلمات هي ذاتها على الدوام، في عددها حوالى إثني عشر، بلا قافية، ولا شعر: "هوسانا، هوسانا، هوسانا، مولانا رب الصبؤوت، را را را، سيس--بوم!... آه"

3 - في نفس الأثناء، كل شخص يعزف على قيثارة -- تلك الملايين والملايين! -- بينما لا يتجاوز العشرين في ألف منهم من إستطاع أن يعزف على أداة في الارض، أو أراد العزف على الإطلاق.

تصور الإعصار الصوتي الذي يصم الآذان--ملايين وملايين من الأصوات تصرخ في آن، وملايين وملايين من القيثارات تصر أسنانها في نفس الوقت. أسألكم: هل هي بشعة؟ هل بغيضة؟ هل رهيبة؟

وتصور أيضا: أنها نوبة من المدائح، نوبة من الثناء، من المجاملة والتملق! هل تتسألون من هو المستعد لتحمل هذا المدح الغريب، المدح المجنون؛ ومن لا يتحمله فحسب، بل يعجب به، يتمتع به، يتطلبه ويأمر به؟ أمسكوا أنفاسكم!

إنه الله! أعني إله هذا الجنس. يجلس على عرشه، في خدمته عشرون وأربعة من شيوخه وبعض الشخصيات الأخرى المرتبطة ببلاطه، ويطل على أميال وأميال من عباده العاصفين، ويبتسم، ويقرقر، ويوميء برضاه شمالا وشرقا وجنوبا، في مشهد جذاب بقدر ما أمكن تخيله في هذا الكون، على ما أرى.

ومن السهل ان نرى أن مخترع الجنة لم يبتكر الفكرة، بل نسخها من طقوس عروض دولة صغيرة يؤسف لها، ذات سيادة في المستوطنات الخلفية في مكان ما من المشرق.

كل الناس البيض العاقلين يكرهون الضجيج؛ ومع ذلك فقد قبلوا بهدوء هذا النوع من الجنة -- دون تفكير، دون تدبر، دون دراسة -- ويريدون فعلا أن يذهبوا إليها! شيوخ ورعون، يعتلي رؤوسهم الشيب، أمضوا جزءا كبيرا من وقتهم يحلمون باليوم السعيد عندما يلقون بمشاغل هذه الحياة جانبا ويدخلون في بهجة ذلك المكان. ولكن يمكنكم أن تروا كيف أنها غير واقعية لديهم، وتروا ضعف قبضتها عليهم كحقيقة، لأنهم لا ينشغلون بالإستعداد العملي للتغيير العظيم: لا ترى أبدا أحدهم مع قيثارة، ولاتسمع أبدا أحدهم يغني.

وكما رأيتم ان العرض الفريد نوبة من المدح: مدح بالترنيم، مدح بالركوع. العرض يحل محل "الكنيسة". إذن، في الارض هؤلاء الناس لا يصمدون طويلا في الكنيسة -- ساعة وربع هو الحد الأقصى، ويضعون الخط الفاصل عند مرة واحدة في الأسبوع، أي أنه يوم الأحد. يوم من سبعة؛ وحتى ذلك لا يتطلعون إليه بشوق. وهكذا -- أنظر ما توفره لهم جنتهم: "كنيسة" تدوم إلى الأبد، وسبت لا نهاية له! وسرعان ما يسأموا هذا السبت الأسبوعي القصير هنا، لكنهم يتشوقون لذاك السبت الأبدي، يحلمون به، يتحدثون عنه، يعتقدون أنهم يعتقدون أنهم سيتمتعوا به-- بكامل قلوبهم الساذجة، يعتقدون أنهم يعتقدون أنهم سيسعدوا به!

ذلك لأنهم لا يفكرون على الإطلاق؛ بل يعتقدون أنهم يفكروا. في حين أنهم لا يستطيعون التفكير؛ ولا إثنين في العشرة آلاف من البشر يملكوا شيئا ليفكروا به. أما عن الخيال--هه، حسنا، أنظر إلى جنتهم! يقبلون بها، يوافقون عليها، ويعجبون بها. إن ذلك يعلمك بمقياسهم العقلي.

4 - مخترع جنتهم يفرغ فيها جميع أمم الأرض، في خليط واحد مشترك. كلهم على مساواة مطلقة، ليس من بينهم أحد يعلو على آخر؛ لابد أن يكونوا "إخوة"؛ لابد أن يختلطوا معا، ويصلوا معا، يعزفوا قيثارة معا، هوسانا معا-- البيض والزنوج (العبيد) واليهود، الجميع -- ليس هناك اي تمييز. هنا في الأرض جميع الأمم يكرهون بعضهم بعضا، وكل واحد منهم يكره اليهود. رغم ذلك، كل شخص متدين يعشق تلك الجنة ويريد الدخول إليها. إنه حقا يعشقها. وعندما يكون في نشوة الطرب المقدس، يعتقد أنه يعتقد أنه لو كان هناك سيحمل جميع الناس إلى قلبه، ويعانق، ويعانق، ويعانق!

إنه أعجوبة -- الإنسان! يا ليتني كنت أعرف من إخترعه.

5 - كل إنسان في الأرض يمتلك حصة من العقل، كبيرة كانت أم صغيرة؛ وسواء كانت كبيرة أو صغيرة فهو يفخر بها. وينتفخ قلبه عند ذكر أسماء أعيان العاقلين المهيبين من عرقه، ويحب حكاية إنجازاتهم الرائعة. فهو من سلالتهم، وبتكريمهم لأنفسهم فقد كرموه. أنظروا ما يستطيع عقل الانسان أن يصنعه، يقول صائحا، ويتلو قائمة أسماء اللامعين من جميع العصور؛ ويشير الى الآداب الخالدة التي وهبوها للعالم، والعجائب الآلية التي إخترعوها، والأمجاد التي خلعوها على العلوم والفنون؛ ولهم يكشف كما للملوك، ولهم يقدم أعمق تحية، وأخلص ما يمكن لقلبه المبتهج أن يوفره-- وهكذا يرفع شأن العقل فوق كل شيء آخر في العالم، ويضعه على عرش هناك تحت السماء المتقوسة في سمو يستحيل الإقتراب منه. ثم يختلق جنة ليس بها خرقة من العقلية في أي مكان!

هل هي غريبة، هل مثيرة للفضول، هل محيرة؟ إنها بالضبط كما قلت، وإن بدت بشكل لا يصدق. إن هذا العاشق المخلص للعقل والمجزي السخي لخدماته العظيمة هنا على الأرض إبتكر دينا وجنة لا تكيل للعقل ثناء، ولا تغدق عليه أية ميزة، ولا ترمي له أية عطايا: في الحقيقة، لا تأتي حتى على ذكره أبدا.

إلى هنا، تكونوا قد لاحظتم أن جنة الإنسان دُرست وشيدت وفق خطة محددة مطلقة؛ وأنها مخطًََّطة لتشمل، بتفصيل جهيد، كل ما يمكن تصوره من بواعث الإشمئزاز عند الإنسان، ولا شيء واحد مما يحب!

جيد جدا، كلما نمضي قدما، كلما سيكون هذا الواقع الغريب أوضح.

لاحظوا: في جنة الإنسان لا توجد تمارين للعقل، وليس له ما يعيش عليه. سيتعفن هناك في سنة -- تعفن ونتانة. سيتعفن وينتن -- و في تلك المرحلة يصبح مقدسا. وهذا شيء مبروك: لأن المقدسين فقط يستطيعوا أن يتحملوا أفراح تلك الفوضى.

يتبع...


التسميات: ,

1 تعليقات:

إرسال تعليق

عودة إلى المدخل